لماذا تفشل بعض القوى في الشرق الأوسط؟ قراءة حضارية في منطق البقاء والاندماج

لماذا تفشل بعض القوى في الشرق الأوسط؟
من الحملات الصليبية إلى إسرائيل، ومن الإسلام إلى الليبرالية: قراءة حضارية في منطق البقاء والاندماج
مقدمة
التاريخ ليس مجرد سجلّ للحروب والمعارك وتبدّل الخرائط، بل هو – في جوهره – مختبر طويل لاختبار الأفكار والنماذج الحضارية. قوى تصعد وتتمدد بسرعة مذهلة، ثم تتلاشى، وأخرى تُهزم عسكرياً أو تسقط دولها، لكنها تبقى حيّة داخل المجتمعات لقرون طويلة. وعندما ننظر إلى الحملات الصليبية، ثم ننتقل إلى الصراعات الحديثة في الشرق الأوسط، يفرض سؤال نفسه بإلحاح: لماذا تفشل قوى عسكرية ضخمة ومدعومة عالمياً في فرض وجود دائم، بينما تنجح أفكار أو حضارات في البقاء حتى بعد زوال دولها وجيوشها؟
هذا المقال لا يسعى للدفاع عن دين بعينه ولا للترويج لأيديولوجيا جاهزة، بل يحاول تفكيك قانون تاريخي متكرر: لا ينجح أي احتلال، ولا يستقر أي مشروع سياسي أو حضاري، ما لم يتحوّل – بمرور الزمن – إلى جزء من المكان والناس، لا جسماً مفروضاً عليهم من الخارج. الاندماج هنا ليس شعاراً أخلاقياً، بل شرط بقاء.
أولاً: الصليبيون… القوة التي لم تصبح «من المكان»
الحملات الصليبية غالباً ما تُقدَّم في السرديات الشعبية بوصفها صراعاً دينياً محضاً، أو مغامرة عسكرية فشلت بسبب شراسة الخصم الإسلامي. لكن القراءة الأعمق تكشف أن فشلها لم يكن عسكرياً في جوهره، بل وجودياً. الصليبيون نجحوا في احتلال مدن، وبناء قلاع، وتأسيس ممالك امتدت لعقود، لكنهم فشلوا في التحوّل إلى جزء عضوي من البيئة التي حكموها.
لم يندمج الصليبيون مع المجتمعات المحلية لا ثقافياً ولا اجتماعياً. ظلوا نخبة عسكرية–إقطاعية معزولة، تتحدث لغتها الخاصة، وتحمل عاداتها الأوروبية، وتنظر إلى السكان الأصليين بوصفهم «رعايا» لا شركاء. لم يحاولوا فهم النسيج الاجتماعي والديني المعقّد للمنطقة، ولا آليات التعايش التي كانت سائدة بين المسلمين والمسيحيين الشرقيين واليهود. كما اعتمد وجودهم اعتماداً شبه كامل على السيف والدعم القادم من أوروبا، سواء كان بشرياً أو مالياً أو رمزياً.
لهذا أقاموا كيانات تبدو قوية ظاهرياً، لكنها في العمق كانت هشة. قلاعهم كانت منيعة، لكن مجتمعاتهم ضعيفة. سلطتهم كانت قائمة على الردع والخوف، لا على الانتماء أو القبول. ومع أي خلل في ميزان القوة – انقطاع الإمدادات، صعود قوة محلية منظمة، أو تغير المزاج الأوروبي – انهارت هذه الكيانات بسرعة، واختفت كأنها لم تكن، تاركة وراءها آثاراً حجرية أكثر من آثار بشرية.
ثانياً: الاحتلال الذي لا يندمج… يعيد إنتاج الفشل
هذه القاعدة لا تخص العصور الوسطى وحدها. التاريخ الحديث والمعاصر مليء بأمثلة لقوى فرضت نفسها بالقوة العسكرية، وامتلكت تفوقاً تقنياً ساحقاً، لكنها فشلت في بناء وجود مستقر. كل مشروع يقوم على نفي الآخر، ورفض التحوّل أو التكيّف مع البيئة المحلية، محكوم بأن يكون مؤقتاً مهما طال أمده.
في الشرق الأوسط الحديث، نرى تشابهاً بنيوياً – لا تطابقياً – بين الصليبيين وبعض المشاريع السياسية والعسكرية المعاصرة. تفوق عسكري واضح، دعم خارجي مستمر، خطاب أمني دائم، لكن في المقابل غياب قبول حقيقي من أهل الأرض. الوجود هنا يُدار كملف أمني، لا كعلاقة اجتماعية–تاريخية. وهذا النوع من الوجود قد يفرض السيطرة، لكنه لا ينتج استقراراً، ولا يخلق شعوراً بالانتماء المتبادل.
التاريخ يعلّمنا أن القوة التي لا تتحوّل إلى «طبيعية» في نظر السكان، تبقى دائماً جسماً غريباً، مهما حاولت تبرير نفسها بالقانون أو الحداثة أو التفوق الأخلاقي المزعوم.
ثالثاً: لماذا نجح الفتح الإسلامي حيث فشل غيره؟
الفتوحات الإسلامية، الممتدة من آسيا الوسطى إلى شمال إفريقيا، قدّمت – في أغلب الحالات – نموذجاً مختلفاً جذرياً عن نماذج الاحتلال التقليدي. لم يكن هذا النموذج مثالياً ولا خالياً من العنف أو الصراع، لكنه تميز بخصائص جعلته قابلاً للاستمرار.
أولاً، لم تُلغِ الفتوحات الإسلامية السكان الأصليين، ولم تسعَ إلى استبدالهم عرقياً. ثانياً، لم يكن هناك مركز خارجي تُنقل إليه الثروات بشكل منهجي كما في الاستعمار الحديث؛ بل تحوّلت المدن المفتوحة إلى مراكز حضارية واقتصادية بحد ذاتها. ثالثاً، ترك الإسلام – في كثير من المراحل – هامشاً واسعاً للتعدد الديني والثقافي، ما سمح باندماج تدريجي لا قسري.
الأهم من ذلك أن الفاتحين أنفسهم تغيّروا. العرب الذين خرجوا من الجزيرة لم يبقوا «عرباً خالصين» بالمعنى الثقافي الضيق. تعرّبوا وتفارسوا وتتريكوا، وتأثروا بالثقافات التي دخلوها بقدر ما أثّروا فيها. بعد أجيال قليلة، لم يعد بالإمكان الفصل بين «الفاتح» و«المفتوح»؛ الجميع أصبحوا «من أهل البلاد».
لهذا سقطت دول إسلامية كبرى، من العباسيين إلى العثمانيين، لكن الإسلام بقي. بل إن انتشاره في مناطق واسعة من إفريقيا وآسيا تم لاحقاً بلا جيوش، عبر التجارة والدعوة والاحتكاك الثقافي. هذا البقاء بعد زوال الدولة هو أحد أهم مؤشرات النجاح الحضاري.
رابعاً: الأندلس… الاستثناء الذي يكشف القاعدة
الأندلس تمثل حالة إشكالية تكشف القاعدة أكثر مما تنقضها. فالأندلس لم تسقط فقط بسبب الانقسام السياسي أو الضغط العسكري الأوروبي، بل بسبب عدم اكتمال الاندماج الهويّاتي على المدى الطويل. بعد قرون من الحكم الإسلامي، ظل المسلمون – في نظر كثير من السكان – جماعة مميّزة، لا هوية جامعة كاملة.
رغم التعايش الطويل والإنجاز الحضاري الهائل، بقي هناك شعور ضمني بـ«نحن» و«هم». الإسلام لم يتحوّل إلى هوية مشتركة جامعة لكل المجتمع كما حدث في المشرق أو المغرب. وعندما سقط الحكم السياسي، لم يكن المجتمع قد اندمج إسلامياً بشكل عميق، ما جعل الطرد والاستئصال أمراً ممكناً.
هذا يفسر لماذا لا نرى اليوم امتداداً إسلامياً أصيلاً في إسبانيا والبرتغال، بخلاف الشام أو مصر أو المغرب. الأندلس تذكير قاسٍ بأن الزمن وحده لا يكفي؛ الاندماج العميق شرط لا غنى عنه.
خامساً: لماذا نجح الإسلام في إفريقيا وآسيا وفشل في أوروبا؟
السؤال هنا لا يتعلق بتفوق ديني بسيط، بل بالبنية الحضارية للبيئات المختلفة. أوروبا في العصور الوسطى امتلكت هوية دينية–قومية مغلقة نسبياً، وكانت الكنيسة مركز السلطة والمعنى. دخول الإسلام إليها كان يُنظر إليه كتهديد وجودي شامل.
في المقابل، كانت إفريقيا وآسيا تتميزان بتعددية دينية وهويات أكثر مرونة، وسلطة غير محتكرة دينياً بشكل صارم. في هذا السياق، دخل الإسلام لا كقوة اقتلاع، بل كمنظّم أخلاقي وإطار حضاري جديد، قادر على التعايش مع البنى القائمة وإعادة تشكيلها تدريجياً.
النجاح هنا لم يكن نتيجة السيف فقط، بل نتيجة قابلية البيئة لاستقبال فكرة جديدة دون الشعور بأنها نهاية للعالم القديم.
سادساً: هل الإسلام مشروع حضاري أكثر من كونه عسكرياً؟
التاريخ يجيب بالإيجاب. لو كان الإسلام مشروعاً عسكرياً محضاً، لانتهى بانتهاء الفتوحات أو بسقوط أول دولة مركزية. لكن ما حدث هو العكس: انتشر حيث لم تصل جيوشه، وبقي حيث سقط حكمه، وتكيّف مع ثقافات متعددة دون أن يذوب فيها.
هذا هو تعريف المشروع الحضاري: قدرة الفكرة على العيش داخل الناس، لا فوقهم. الدين هنا لا يعمل كقانون مفروض فقط، بل كمعنى يُعاد إنتاجه اجتماعياً عبر الأسرة، والعادات، والأخلاق اليومية.
سابعاً: الليبرالية… المنافس العالمي الحالي
اليوم، تمثل الليبرالية المشروع العالمي الأقوى مادياً. تملك الاقتصاد، والتكنولوجيا، والمؤسسات العابرة للحدود. لكنها تعاني من فراغ بنيوي متزايد: ضعف في المعنى، تفكك اجتماعي، وتحوّل الإنسان إلى فرد حر شكلياً لكنه وحيد ومعزول فعلياً.
الليبرالية نظام إدارة ناجح، لكنها ليست مشروع انتماء. هي تُتقن تنظيم السوق والدولة، لكنها تفشل في الإجابة عن سؤال: لماذا نعيش؟ وما الذي يجمعنا أبعد من المصلحة؟
ثامناً: ماذا لو فشل الإسلام والليبرالية معاً؟
هذا سيناريو واقعي لا خيالي. قد تفشل الليبرالية أخلاقياً، ويفشل الإسلام حضارياً – بمعنى عجزه عن إنتاج نموذج معاصر متكامل – ويبقى مجرد دين فردي منزوع الأثر الاجتماعي. النتيجة ستكون عالماً بلا معنى جامع: صعود قوميات متطرفة، أنظمة تقنية–أمنية، وإنسان مُدار لا مُختار.
تاسعاً: الذكاء الاصطناعي… مُسرّع لا مُنقذ
الذكاء الاصطناعي لا يصنع القيم، بل يضخّم القيم القائمة. في عالم بلا أخلاق يصبح أداة مراقبة وهيمنة، وفي عالم ذي مرجعية إنسانية يمكن أن يصبح أداة خدمة وتحسين للحياة. التحدي الحقيقي ليس تقنياً، بل أخلاقي: من يضع الحدود؟ ومن يملك تعريف «الخير»؟
عاشراً: لماذا يخاف الغرب من «الإسلام الطبيعي»؟
الإسلام المتطرف عدو واضح، سهل التشويه، ويبرر العنف المضاد. أما الإسلام الطبيعي – كأسرة مستقرة، ومعنى للحياة، وتضامن اجتماعي، ورفض للاستهلاك الأعمى – فهو نموذج لا يُحارب بالسلاح ولا يُفكك بسهولة. لأنه يطرح سؤالاً صامتاً وخطيراً: هل النموذج الغربي هو النهاية فعلاً؟
الخلاصة
التاريخ لا يعاقب الأديان ولا يكافئها، بل يعاقب النماذج التي لا تندمج، ويكافئ الأفكار القابلة للعيش. القوة وحدها لا تكفي، ولا الأخلاق بلا قدرة، ولا التقنية بلا معنى. المستقبل لن يكون انتصاراً ساحقاً لنموذج واحد، بل صراعاً طويلاً بين الهيمنة، والاندماج، والمعنى. والسؤال الحقيقي ليس: من سينتصر؟ بل: من يستطيع أن يكون إنسانياً… وقابلاً للحياة؟



