إنعكاسات الانتخابات الأمريكية على الملف السوري
والملف السوري بطبيعة الحال سيخضع بدوره لتلك الارتدادات والمفاعيل بصورة أو أخرى
وكما هو معلوم أن التنافس السياسي في الولايات المتحدة محصور بين حزبين كبيرين فقط هما : الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وحتى لو كان للسياسة الأمريكية ثوابتاً وخطوطاً عريضة تشكل ملامح تلك السياسة إلا أن هناك دائماً هوامش قد تختلف من حزب لآخر بصورة واضحة ، ومن خلال تتبع شكل إدارة كلا الحزبين للملف السوري والذي تعاقب عليه رئيسان أمريكيان ديمقراطي وجمهوري يمكن التنبؤ ببعض الملامح العامة والانعكاسات التي ستطال هذا الملف بناءً على اسم الرئيس وخلفيته الحزبية ، وليس خافياً أن كثيراً من السوريين يتخوفون من أي رئيس أمريكي ديمقراطي قادم ، ذلك أن تجربتهم المريرة مع الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما وحجم الضرر الذي لحق بالثورة السورية بسبب سياساته التي أطلقت يد إيران في سوريا وعموم المنطقة وتغاضيه عن التدخل الروسي العسكري وخطوطه الحمراء التي تراجع عنها أكثر من مرة تجعل تخوفاتهم مبررة
لكن في نفس الوقت فإن ذلك يطرح تساؤلاَ عريضاً: هل اختلفت سياسات الرئيس الجمهوري دونالد ترامب من حيث النتيجة النهائية والواقع بصورة جذرية عن سياسات سلفه أوباما في سوريا؟
وهنا لا بد الانتباه -وبناءً على معطيات الواقع على الأرض -أن الخلاف بين كلا المرشحين ترامب وجو بايدن أو بالأحرى بين الديموقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة لا يعدو كونه خلافاً على التفاصيل والهوامش أو على طريقة الإخراج ومفردات خطاب إدارة هذا الملف الشائك والمعقد.
فالموقف الأمريكي في سورية يخضع لاستراتيجيات عامة ترسمها مؤسسات فوق رئاسية أو فوق حزبية، وهذا ليس خاصاً بسوريا فقط بل بمجمل الملفات الخارجية للولايات المتحدة.
لذلك لم يكن ثمة فروقاً جوهرية واضحة بين حقبة أوباما وحقبة ترامب في الملف السوري، فالمأساة السورية مستمرة وآلة القتل لم تتوقف والحلول السياسية الجدية لازالت غائبة وفي كلا الحقبتين لم تحصل اختراقات هامة تنعكس على المذبحة السورية التي ناهزت العقد من الزمن، وإن كانت سياسة الولايات المتحدة قد بدت أكثر صرامة في وجه ازدياد النفوذ الإيراني في المنطقة ، لكنها بالعموم لم تغير كثيراً سواء في استمرار هذا النفوذ أو البقعة الجغرافية التي يهيمن عليها، وبمعنى أدق : سياسة ترامب لم تخرج عن محاولات ضبط السلوك الإيراني في سوريا وعموم المنطقة وليس حسمه وإنهاءه ولا حتى تضييقه أو دفعه للانكفاء.
(صحيح أن أوباما أطلق يد إيران في سوريا وأن ترامب قيدها ، لكن بالمقابل ترامب تغاضا عن يد روسيا في سوريا، وكلاهما روسيا وإيران لا زالتا تمارسان القتل والتدمير والتهجير في سوريا دون محاسبة، ولا شك أن مرحلة أوباما أفرزت الاتفاق النووي مع إيران والذي أضر بنا أكبر الضرر وأن مرحلة ترامب شهدت سن قانون قيصر والذي يعد أهم قانون صدر ضد نظام بشار الأسد وداعميه، إلا أن المحصلة النهائية من حيث النتيجة والواقع الراهن متقاربة والمأساة مستمرة)
لفهم الاستراتيجية العامة لملامح السياسة الأمريكية في سوريا أكثر لابد من الاطلاع على ما تصدره بعض مراكز الدراسات الأمريكية والمنظّرين أصحاب التأثير القوي لدى صانع القرار الأمريكي ومنها على سبيل المثال : ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز عام 2013 للمنظِّر الاستراتيجي الأميركي اليهودي -إدوارد لوتواك – والذي قدم حينها عدة نصائح للإدارة الأمريكية والرئيس باراك أوباما حول الملف السوري ومنها :
(في سوريا: ستخسر أميركا إذا كسبَ أيٌّ من الأطراف)
ثم أردف: “إن الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضرُّ المصالح الأميركية”، وختم بنصيحة وجهها لصانع القرار الأميركي: “سلِّحوا المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود وأوقِفوا دعمهم كلما بدا أنهم سيكسبون المعركة”
وليس من الصعب تبين أن هذا ما حصل بالفعل وأن نصائح لوتواك وجدت أذناً صاغية لدى صانع القرار الأمريكي وتم تطبيقها بشكل حرفي تقريباً في سوريا
وأيضاً: لا يمكن تجاهل الإرث السيء الذي خلّفه أوباما لإدارة ترامب في الملف السوري لكن الرغبة الفعلية لحل الملف السوري كانت فعلياً غائبة عن كلا الرئيسين
السفير الأمريكي روبرت فورد وفي أحد لقاءاته مع ممثلين عن المعارضة في بدايات انطلاق الثورة السورية و في مكتبه بواشنطن في الخامس من شهر أغسطس 2011، قال لهم بالحرف: “الموضوع سيطول كثيراً”، أي أنه كان يعلم في حينها موقف أوباما وحقيقة “خطوطه الحمراء” التي انقلب عليها بعد اجتماع لوزير خارجيته كيري ونظيره الروسي لافروف، وتم التوصل بين وزيري الخارجية حينها إلى أغرب عقاب في التاريخ لمجرم يستخدم أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه الأعزل إثر ضربه غوطة دمشق بتاريخ 21 آب – أغسطس 2013 بالسلاح الكيميائي المحظور دولياً، حيث تم حينها مصادرة سلاح الجريمة و إعادة إطلاق القاتل ليتابع جرائمه عبر تفاهم كيري-لافروف وحينها لم تكن قد ظهرت أي تنظيمات إرهابية ولم يكن لتنظيم الدولة أو غيره وجود ليتم التذرع به كما حصل في عدة مناسبات لاحقاً .
في إدارة أوباما لم يتغير الموقف الأمريكي لا قبل استعمال الكيماوي ولا بعده، فالسياسة الأمريكية -كباقي الدول- تنطلق اعتباراً من مصالحها في التعاطي مع جل القضايا الخارجية، وليست الثورة السورية وتفاعلاتها استثناءً من هذه القاعدة، ولا يغير تعاقب وتبدل الإدارات الامريكية على البيت الأبيض من ذلك جوهرياً أو جذرياً ، فأغلب أصحاب القرار في المؤسسات الأمريكية المعنية بالملف السوري يعتمدون في رسم سياساتهم على خلاصات ترسمها مراكز أبحاث معتمدة لدى واشنطن، وفي مراجعة سريعة للخطوط الحمراء التي حددتها الإدارة الأمريكية وتم تجاوزها من قبل نظام الأسد مراراً نجد أن واشنطن وجدت عذراً فقط لإيقاف توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد ، وبالمقابل عندما قرر ترامب تنفيذ ضربات صاروخية على أهداف للنظام جراء إعادة استخدامه السلاح الكيماوي في “خان شيخون” كانت هذه الضربات جراحية على نقاط ومواقع عسكرية شبه فارغة أو مفرغة بسبب وجود معلومات وتحذيرات مسبقة عن الضربات وأماكنها.
فالأمر بالنسبة لواشنطن يخضع لتوازنات تم رسمها بعناية من خلال حسابات ومعطيات تتجاوز القضايا الإنسانية والأخلاقية المجردة، منها على سبيل المثال : أن النظرة السلبية للمعارضة السورية بشكلها الحالي واقتناع واشنطن أنها لازالت غير مؤهلة لاستلام الحكم في سورية وكذلك اعتبارها أن تقديم أي دعم جاد لهذه المعارضة سيكون بمثابة تقديمه لحليف دولة مجاورة لا يُراد لها الصعود أكثر وليست تحت الإبط الأمريكي وهي تركيا، الأمر الذي يشرح ذهاب واشنطن باتجاه الانفصاليين في شرق الفرات وتقديم الدعم السخي لهم، ومن جهة ثانية استمرار الصراع في سورية وإطالة أمده سيكون في صالح السياسة الأمريكية الرامية إلى إضعاف محور آخر لصالح إسرائيل وعدد من دول المنطقة وهو المحور الإيراني الشيعي الحليف لنظام الأسد الذي تم النجاح بجره للعمق المطلوب الذي يبقيه في حالة من النزيف لأكبر فترة ممكنة، والذي يقابله استنزاف للمحور السُني على الجهة المقابلة (تركيا وحلفاءها)، فالقصور الأمريكي في الملف السوري يتمثل في عدم رغبة الولايات المتحدة أصلاً بإنهاء شلال الدم الحاصل في سورية، بل تحولها في بعض الفترات إلى طرف من ضمن مجموعة أطراف لها دور مساهم في تمزيق سورية من خلال دعمها لميليشيات ال PYD وتخدير القوى الثورية في بداية الثورة، وعملها على حرف البوصلة عن الهدف المطلوب للثورة المتمثل في اسقاط نظام الكيماوي المستبد الذي أعطته إدارة أوباما وكذلك ترامب الضوء الأخضر بعدما كسر الخطوط الحمراء بإشارة غير صريحة كون الرد على جرائمه ظل غائباً لسنوات طويلة.
شكلت الانتخابات الأمريكية التي تحدد الرئيس المستقبلي للولايات المتحدة، أهمية كبيرة لدى تركيا بشأن العلاقات بين البلدين.
فرغم سلسلة الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة في الفترة الماضية، ورغم تعقيدات الملفات بينهما، إلا أن الرئيس الجمهوري دونالد ترامب حافظ على مسار مقبول ومتوازن مع تركيا.
ففي عام 2018 تصاعد التوتر في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى ذروته بسبب قضية القس الأمريكي أندرو برانسون، وصلت إلى عقوبات متبادلة بينهما.
وتجدد الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة عام 2019 بسبب العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا ضد الوحدات الكردية الانفصالية YPDوالمصنفة لدى أنقرة كتنظيمات إرهابية.
وشكّل شراء تركيا منظومة “S400” الروسية أحد أهم الأزمات في العلاقات بين أنقرة وواشنطن خلال فترة حكم ترامب، وصلت لمطالبة الكونغرس الأمريكي بفرض عقوبات على تركيا، وكان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ مع التوقيع عليها في أب/ أغسطس 2017
ولكن الرئيس الأمريكي أعاق فرض عقوبات قانون “كاتسا”، و فضل لغة الحوار مع نظيره أردوغان لتجاوز الإشكالات في ملفات أخرى لكنه في نهاية ولايته رضخ لمطالب الكونغرس المتكررة وأعلن حزمة من العقوبات بتاريخ /14ديسمبر الماضي طالت إدارة الصناعات الدفاعية التركية ورئيسها “إسماعيل دمير” بالإضافة لثلاث أفراد آخرين يعملون في نفس الإدارة عقب إعلان أنقرة عن تشغيل منظومة S400 وهو ما اعتبرته واشنطن على لسان وزير خارجيتها بومبيو : تهديداً للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية .
وعقب الإعلان عن فوز المرشح الديمقراطي “جون بايدن” فمن المرجح أن نشهد اختلافاً ملموساً في سياسته مع تركيا عن منافسه ترامب بشأن العديد من القضايا أكثر حزماً، لاسيما في الملف السوري والمزاعم بالإبادة الجماعية للأرمن، والتي وصلت لحد مهاجمة بايدن للرئيس التركي في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، والدعوة إلى التعاون مع المعارضة التركية لإسقاطه.
وفي قراءة للموقف التركي من الانتخابات الأمريكية، فإن أنقرة بلا شك تفضل التعامل مع ترامب على بايدن الذي أظهر مواقف عدائية مؤخراً تجاه تركيا، لكن أوساطاً تركية أخرى ترى أنه لن يكون هناك اختلافاً كبيراً بين ترامب وبايدن لأن الخلافات بين البلدين أصلاً ما زالت قائمة ولم يتم تجاوزها والعقوبات الأمريكية كذلك.
إفرازات الانتخابات الأمريكية لن تحدث تغييراً كبيراً أو فروقاً جوهرية بالنسبة لعموم الملف السوري، فقد كان فوز المرشح الجمهوري ترامب ربما يؤدي لعقد صفقة مع الروس، والآن عقب فوز المرشح الديمقراطي بايدن من المرجح أن يعقد صفقة مع ايران، وكلا الدولتين هما عدوتان لدودتان للثورة السورية وقد مارستا في حق الشعب السوري أبشع المجازر وساندتا نظام بشار الأسد بقوة وشراسة، طبعاً هذه المقاربة لا تعني عدم التفريق بين هذين العدوين من حيث المخاطر والأضرار المستقبلية والتغيرات الديمغرافية والثقافية البعيدة، فالضرر البعيد لإيران على مجمل البنية الاجتماعية السورية والنسيج الثقافي والأيديولوجي العميق أخطر بكثير من الضرر الروسي الذي لا يهمه من سوريا سوى الهيمنة على مصادرها الاقتصادية وصفقاتها العسكرية ومنافذها البحرية وضمان استمرار التأثير في قرارها السياسي ، لكن كما سبق وأشرت هذه التأثيرات لن تكون في المدى المنظور أو حتى المتوسط ، وبكل الأحوال الولايات المتحدة ليست مهتمة حتى الآن بحلحلة الملف السوري لأسباب كثيرة تقوم على تعريف التقاطعات مع كل المحيط الدولي والاقليمي وفهم المصالح الأمريكية بشكل صحيح .
وأما بالنسبة للفاعلين الدوليين الآخرين فحجم اهتمامهم بالملف السوري لم يعد أولوية سيما أن سوريا أساساً ليست مناطق نفوذ تاريخي او استراتيجي لهم
(الحرب التي يقودها التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة -ميليشيا قسد -النفط -أمن إسرائيل -وعدم السماح لموسكو بفرض رؤيتها لشكل الحل النهائي في سوريا) وهذه المصالح متحققة الان لواشنطن دون اضطرارها لممارسة ضغوط سياسية أو عسكرية أو الدفع باتجاه حل نهائي.
وأما بالنسبة للأوربيين: يعنيهم فقط ضمان عدم تدفق المزيد من اللاجئين نحوهم
الـخـلاصـة: الانتخابات الأمريكية سواء كانت أفرزت رئيساً جمهورياً أم ديمقراطياً ستكون متقاربة النتيجة بالنسبة لنا
فإن أفرزت رئيساً ديمقراطياً سينصب جهده نحو إيران توسعاً ونحو تركيا تضييقاً وعزلاً
ولو أنها جددت ولاية ثانية لترامب فجهده كان سينصب نحو الحرب الاقتصادية والتكنولوجية الطاحنة مع الصين والتي تمثل اليوم أكبر تهديد للولايات المتحدة على الإطلاق
ولو أضفنا لكل ذلك معادلة (كورونا) وتحول الولايات المتحدة لأكبر بقعة في العالم ينتشر فيها الفايروس بعدد إصابات قارب العشرة ملايين وضحايا ناهزوا ال 300 ألف والموجة الشرسة الثانية التي تجتاح العالم بقوة سنجد أننا أمام احتمال جمود طويل في الملف السوري عموماً.
نقطة أخيرة وهامة لابد من الإشارة لها: هدف هذه الدراسة ليس رسم صورة قاتمة أو العناية بالجانب النفسي الذي قد يترتب عليها، بل هي مبنية على معطيات مجردة وقراءة سياسية بحتة بهدف تقديم صورة حقيقية وواضحة يمكن للسوريين من خلالها تحديد أهدافهم وأولوياتهم والبحث عن أوراق قوة تضمن لهم البقاء ضمن دائرة الأحداث والتأثير وتكفل لهم إحداث خروق في الحائط الدولي الأصم.
إعداد الباحث والناشط السياسي
ساجد تركماني