مقالات الرأي

توضيحات د. محمد المختار الشنقيطي حول تغريدته الأخيرة:

  1. لا رغبة لديّ في الجدل حول عاقبة موتى المسيحيين في الآخرة، لكن وصلتني ردود غريبة من بعض الأحبة، على تغريدتي التي اخترتُ فيها تفويض هذا الأمر إلى مشيئة الخالق، تأدبًا معه سبحانه، وتأسّيا بنبي الله عيسى عليه السلام.

‏2. علما بأن المسيح عليه السلام هو أعلم الناس بهذا الموضوع، وأقربهم إليه. وكنتُ درست هذا الموضوع منذ سنين، وحاولتُ الاطّلاع على مُجمل ما قاله المفسرون في تفسير الآية 118 من سورة المائدة وما فيها من قول المسيح عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)

‏3. وحينما احتدّ النقاش واشتدّ بين جماهير المسلمين على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحول إلى ما يشبه الصخب الذي يدلي فيه الجميع بآرائهم دون تدقيق، قررت التعبير عن رأيي في تغريدة، اكتفيت فيها، بتبنّي قول المسيح عليه السلام، الوارد في نص القرآن الكريم. لكن يبدو أن الموضوع يحتاج توضيحات

‏4. وردت هذه الآية الكريمةضمن حوار بين الله سبحانه وتعالى والمسيح عليه السلام في الآخرةن بيّن فيه الخالق سبحانه للمسيح ما طرأ على رسالة التوحيد التي جاء بها من تحريف وتشويه، كان أبشعَه تأليه المسيح وأمه واتخاذهما إلهين من دون الله. وقد أوضح المسيح عليه السلام براءته من هذا الشرك..

‏5. وقد استبشع المسيح هذا الشرك في هذا الحوار، وكان حذّر أتباعه في حياته من الشرك في آيات أخرى منها الآية: “لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار”

‏6. لكن ما لفت نظري، ولفت أنظار عدد من المفسرين منذ قرون هو أن المسيح في الحوار الذي اختُتمت به سورة المائدة، لم يحكم على مصائر من اتخذوه إلها، بل فوَّض الأمر إلى الله تعالى: تعذيبا أو غفرانا: “إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

‏7. وقد توقف عدد من المفسرين عند هذه الآية، واستشكلوا هذا التفويض، رغم معارضته الظاهرة للآيات الدالة على عدم غفران الشرك. قال الرازي: “معنى الآية ظاهر، وفيه سؤال: وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول (وإن تغفر لهم) والله لا يغفر الشرك”، ثم أجاب الرازي على هذا السؤال عدة أجوبة

‏8. والطريف أن من الأجوبة التي أوردها الرازي على السؤال أنه “يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يُدخل الكفار الجنة وأن يُدخل الزهاد والعبّاد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله، وترك التعرض والاعتراض بالكلية”

‏9. ويقصد الرازي بقوله “على مذهبنا” مذهب الأشاعرة. ثم يقول: “ولذلك ختم [عسي عليه السلم] الكلام بقوله (فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) يعني أنت قادر على ما تريد، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمَن أنا والخوض في أحوال الربوبية؟!”

‏10. وقال الرازي: “غفرانه [الشرك] جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب، وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسنا بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى”

‏11. يقصد الرازي أن الشرك يجوز غفرانه عقلا، عند الأشاعرة وبعض المعتزلة، ولكن النص الشرعي يمنعه، وهذا التفصيل مظهر من تمحّلات المتكلمين. أما ادّعاؤه أن عدم غفران الشرك قد لا يكون موجودا “في شرع عيسى” فهذا تكلف أكبر، لأن الأنبياء لا يختلفون في العقائد، والقرآن صريح بأنه كان موجودا

‏12. وأورد البغوي الاستشكال للآية فقال: “فإن قيل: كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار، وكيف قال: (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) وهذا لا يليق بسؤال المغفرة؟” ومثله الخازن الذي رأى أنه “أنه لا يليق بعيسى عليه السلام طلب المغفرة لهم مع علمه بأن الله تعالى لا يغفر لمن يموت على الشرك”

‏13. وحاصل ما ذهب إليه المفسرون في قول عيسى عليه السلام -إذا تركنا التكلّفات المُخرجة للآية عن سياقها-يدور على معان ثلاثة: أولها أنه قال ذلك تأدبا مع الله تعالى، وتفويضا للأمر إليه، مع علمه بأنهم أشركوا من بعده، وبأن الله لا يغفر أن يشرك به. وإلى هذا المعنى مال أغلب المفسرين..

‏14. قال ابن كثير: “هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون”. وقال القرطبي: “وقال [عيسى]: (فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) ولم يقل: (فإنك أنت الغفور الرحيم)، على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه”

‏15. وقال الماتريدي: “كأنه قال إن خذلتهم فمن الذي ينصرهم ويدفع ذلك عنهم دونك، وهم عبادك أذلاء؟! وإن أكرمتهم فمن الذي يمنعك عن إكرامهم؟! والثاني: إن تعذبهم فلك سلطان عليهم، ولست أنت في تعذيبك إياهم جائرا؛ لأنهم عبادك؛ لأن الجور هو المجاوزة عن الحد الذي له إلى الحد الذي ليس له.”

‏16. وقال الزمخشري: “فقال [عيسى عليه السلام]: إن عذبتَهم عدلتَ، لأنهم أحقَّاء بالعذاب، وإن غفرتَ لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة، لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن.” وفي كلامه النفَس الكلامي القائل بجواز غفران الشرك عقلا

‏17. المعنى الثاني الذي أوّل به المفسرون قول المسيح عليه السلام هو أنه قال ما قال عطفا على أتباعه ورحمة بهم، رغم تحريفهم للدين. ونقل القرطبي هذا الرأي، وهو أنه: “قاله على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يُستَعطف السيد لعبده.” وقال الماوردي: “على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم”

‏18. والمعنى الثالث -وقليل من قال به- أن عيسى عليه السلام جوَّز الغفران لهم. وممن أشاروا إلى هذا ابن عاشور، فقال: “فوّض [عيسى] أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به، لأن المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدة هول ذلك اليوم، وغاية ما عرَّض به عيسى أنه جوَّز المغفرة لهم رحمة منه بهم”

‏19. والحد الأدنى الذي تتفق عليه أقوال المفسرين لهذه الآية الكريمة، هو أن عيسى عليه السلام سلك مسلك التأدب مع الله تعالى، ففوَّض أمر القوم إليه، تعذيبا وغفرانا. فهذا الحد لا يختلف فيه المفسِّرون، رغم خلافاتهم الكثيرة فيما وراء ذلك. ووهذا إجماع منهم على صحة على الفهم للآية الكريمة

‏20. وهذا الحد هو الذي ذهبتُ إليه وتمسكتُ به. ولستُ أعيب من حكم على عاقبة القوم بالنار، تمسكا بظواهر الوحي الدالة على ذلك، ولا أتخوّض في مسألة الاستغفار لهم والترحم عليهم. وإنما أقول إن أفضل الأقوال وأسلمها وأحكمها وأعظمها أدباً مع الله تعالى هو ما حكاه القرآن عن عيسى عليه السلام

‏21. وهذا الذي ذهب إليه عيسى عليه السلام منهج نبوي قديم ومتجدد، فهو اتباعٌ لسنّة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي دعا الله تعالى أن يعصم ذريته من عبادة الأوثان، وهي أقبح قبائح الشرك: “وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام”

‏22. ثم فوض إبراهيم أمر المحرومين من بركة هذا الدعاء لله تعالى: تعذيبا أو غفرانا، رغم أنهم مشركون: “رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم. قال الطبري: “ومن خالف أمري فلـم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنه غفور لذنوب الـمذنبـين الـخَطائين…”

‏23.وقال ابن كثير: “ثم ذكَر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبَدها وردّ أمرهم إلى الله، إن شاء عذّبهم وإن شاء غفر لهم، كقول عيسى عليه السلام(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفرلهم فإنك أنت العزيزالحكيم). وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك”

‏24. وفي ربط ابن كثير بين الآيتين ما يدل على فقهه، فهما مترابطتان عضويا في المعاني الجليلة التي تضمّنتاها. ولذلك كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآيتين معا، ويرددهما في صلاته طويلا، رغم أنهما من سورتين مختلفتين. مما يدل على أن مضمونهما في تفويض العاقبة إلى الخالق منهج نبوي أصيل

‏25. وأخيرا أقول إني لست -بحمد الله- ممن يخلطون بين التوحيد والتثليث، ولا بين التنزيه والتجسيد. وأني أدين الله تعالى بدين الإسلام الذي هو الدين المقبول عند الله تعالى، ولست من أتباع الإبراهيمية التلفيقية الجديدة، ولا من القائلين يتساوي الأديان، أو بالنسبة الاعتقادية والفلسفية…

‏26. ورغم أني بحمد لله درست تاريخ الأديان من منابعه في أميركا، على أيدي أساتذة مسيحيين ويهود وملاحدة، فلم يزدني الاطلاع على أديانهم، إلا اعترافا بفضل الله وغبطة برحمته، إذ جعلني مسلما. وكنت أقول لطلابي دائما إن تاريخ الأديان هو تاريخ الضلالات أيضا، لكثرة ما فيه من متاهات وترّهات..

‏27. ولو كانت لدي أمّ أو أخت مسيحية، وماتت على مسيحيتها، لحزنتُ عليها حزنا مضاعفا: حزنا أصغر لموتها، وحزنا أكبر لعماها عن رؤية نور الإسلام. ولما شهدتُ لها بجنة، ولا شهدت عليها بنار، وإنما كنت قلت كما قال المسيح عليه السلام: “إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفرلهم فإنك أنت العزيزالحكيم”

‏28. ورغم أني أحتقر الظلمة والفجرة أحياء وأمواتا، فإني أرى أن الخوض في مسألة العاقبة والجنة والنار، تحتاج تحريا وحيطة وحذرا. لذلك أنصح شباب المسلمين بالتحري قبل الخوض في هذه المسائل الاعتقادية الشائكة، وأن يوسعوا مداركهم، ويقبلوا الحوار والخلاف في فهم النص الشرعي دون تشنج..

‏29. كما أنصح الشباب بعدم إهدار أوقاتهم في الجدل، وبتجنب القبول بموقع الدفاع الذليل، أو التبرير البارد. كما أنصحهم بعدم الخوف مما دعاه الإمام الشوكاني “هيبة الجمهور”، التي تمنع الإنسان من التصريح بما يدين الله به، خوفا من رأي سائد، أو ذوق مسيطر..

‏30. وأخيرا فإن البراءة من الشرك، واحتقار الظلم والظالمين، جزء تكويني من قوام دين الإسلام. كما أن الأدب مع الله تعالى في أمر العواقب أسلمُ وأحكمُ. وهو منهج نبوي أصيل، ذكره القرآن الكريم عن إبراهيم وعيسى عليهما السلام. ولو أننا التزمنا بهذا المنهج لوفر علينا كثيرا من الجدل العقيم.

  1. وعودا على بدء أقول: حزني على الراحلة ‎#شيرين_أبوعاقلة حزن مضاعَف: أنها قتلتْ ظلما بيد عدو غاشم، وأنها رحلتْ قبل أن ترى بقلبها نور الإسلام. فليت أحبتها المسلمين كانوا بذلوا جهدا في دعوتها للإسلام وهي بينهم، بدل الجدل حول مقعدها من الجنة أو النار بعد رحيلها. فكم خسرنا من شيرين!!!

  2. “اللَّهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السَّمواتِ والأرض، عالِمَ الغيبِ والشَّهادةِ، أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيهِ يختلِفونَ. اهدِني لما اختُلِفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنِكَ، إنَّكَ تهدي من تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيمٍ.” (صحيح مسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى