الموقف التركي من الأزمة الأوكرانية وتداعياته على العلاقات مع روسيا والغرب
رغم الإدانة التركية الحازمة للغزو الروسي إلا أن موسكو تمسك بالعديد من الملفات المزعجة لأنقرة بداية من ملف إمدادات الغاز والسياحة وصولًا إلى ملف إدلب ودعم الجماعات الكردية الانفصالية، وبالتالي يرجَّح أن تجمع أنقرة بين الحفاظ على نهج الإدانة الحازمة للغزو الروسي مع السعي للعب دور الوسيط للتفاوض ووقف الأعمال القتالية، ويُستبعد أن تنخرط تركيا في فرض عقوبات على روسيا أو قطع العلاقات معها لأن ذلك سيُلحق أضرارًا فادحة بالاقتصاد التركي.
اتسمت العلاقات التركية-الروسية عبر التاريخ بالتنافس والصراع في عدة ساحات شملت البلقان والبحر الأسود والقوقاز، وقد تواصل التوتر بين البلدين عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث طلبت موسكو من أنقرة منحها مدينة قارص شرق الأناضول وإعادة النظر في اتفاقيات العبور بمضيقي البوسفور والدردنيل مما دفع تركيا، في عام 1952، للانضمام إلى حلف الناتو للاحتماء به من التهديدات السوفيتية، وظلت أنقرة خلال حقبة الحرب الباردة تتحرك ضمن الاستراتيجيات الغربية ليقتصر دورها على العمل كحاجز أمام تمدد موسكو نحو البحار الدافئة بالتوازي مع إهمال ساحات التأثير التاريخية في البلقان وآسيا الوسطى وشمال إفريقيا.
انهيار الاتحاد السوفيتي، في عام 1991، قلب المشهد رأسًا على عقب؛ إذ وجدت تركيا أمامها مساحات فراغ جيوسياسية واسعة استثمرتها للانفتاح خارجيًّا وبالأخص مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، عام 2002، حيث تبنَّى الحزب بقيادة أردوغان سياسة خارجية مرنة اعتمدت خلال العقد الأول من حكمه على تصفير المشاكل مع دول الجوار، وبالتالي بدأت حقبة جديدة في العلاقات التركية-الروسية وبالتحديد بعد رفض مجلس النواب التركي السماح للجيش الأميركي، في عام 2003، باستخدام الأراضي والأجواء التركية في غزو العراق مما أرسل رسالة لموسكو بأن أنقرة أصبحت تعتمد سياسات مستقلة بعيدًا عن الكتلة الغربية، ومن ثم زار بوتين تركيا، عام 2004، في أول زيارة لرئيس روسي للبلاد منذ زيارة الرئيس السوفيتي، بودغورني، عام 1972(1).
وقد تعمَّقت العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين تركيا وروسيا وبالأخص في مجال نقل الطاقة وإن ظل التنافس بينهما قائمًا في العديد من الملفات مثل سوريا وليبيا وقبرص وإقليم ناغورني قرةباغ لكن ظلَّت تلك الخلافات ضمن مساحة مقبولة من الطرفين، وهو ما كفل لهما التجاوز السريع لأزمة إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية في عام 2015 قرب الحدود السورية؛ حيث عادت العلاقات الوثيقة مجددًا وبالأخص بعد وقوف بوتين بجوار الرئيس التركي في وجه الانقلاب العسكري، عام 2016، ومن ثم انتقل التعاون بين البلدين إلى مربع العلاقات العسكرية مع شراء أنقرة، في عام 2019، لمنظومة الدفاع الجوي الروسي إس400 رغم التهديدات والعقوبات الأميركية بخصوص إتمام تلك الصفقة.
وعلى الطرف الآخر، تمتعت تركيا بعلاقات وثيقة مع أوكرانيا تعود إلى العهد العثماني حيث تحالف العثمانيون مع القوزاق الأوكرانيين وتتار القرم ضد الإمبراطورية الروسية(2). وعقب استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي وقَّعت معها تركيا بروتوكول لإقامة علاقات دبلوماسية، في فبراير/شباط 1992(3)، وقد أسهم اعتراف أوكرانيا بحقوق تتار القرم ذوي الخلفية المسلمة السُّنِّية، ومنحهم حق الحكم الذاتي في بناء الثقة بين البلدين(4). وبمرور الوقت، تعمَّقت العلاقات التركية-الأوكرانية على المستويات الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية.
وضع الغزو الروسي لأوكرانيا مؤخرًا تركيا بين فكي كماشة في ظل تمتعها بعلاقات قوية مع طرفي الحرب. فرغم رفض تركيا منذ عام 2014 الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتأكيدها على ضرورة احترام وحدة الأراضي الأوكرانية، فإن أنقرة حافظت خلال السنوات الماضية على علاقاتها مع موسكو، ولم تنخرط في فرض أية عقوبات اقتصادية على روسيا على خلفية دورها في انفصال لوغانسك ودونيتسك بشرق أوكرانيا، بل انخرط البلدان معًا في مشروع خط أنابيب “السيل التركي” الذي دخل مرحلة التشغيل في عام 2020 بنقل الغاز من روسيا إلى تركيا والبلقان بعيدًا عن أوكرانيا التي ظلَّت لسنوات تنفرد بخط المرور الأساسي للغاز الروسي إلى أوروبا.
دفعت الحرب الأخيرة تركيا لاتخاذ مواقف أكثر حدة ضد الغزو الروسي، ففضلًا عن إدانتها للغزو رسميًّا؛ فقد شدَّد أردوغان على وجوب اتخاذ الناتو موقفًا أكثر حزمًا حيال التطورات في أوكرانيا(5)، وأعلن وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، إن بلاده أخطرت جميع الدول المطلة وغير المطلة على البحر الأسود بعدم مرور السفن الحربية من مضيقي البوسفور والدردنيل، في ظل الأزمة الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. وقال إن تركيا “تملك صلاحية منع عبور السفن الحربية التابعة للدول المتحاربة حتى لو لم تكن طرف في الحرب”، و أن بلاده “التزمت بما تنص عليه معاهدة مونترو”.
تأتي هذه الإجراءات في ظل رؤية تركيا لعدة تهديدات يمثلها الغزو الروسي، من أبرزها:
أولًا: البحر الأسود والمضائق
تشترك تركيا مع أوكرانيا وروسيا في الإطلال على ساحل البحر الأسود رفقة بلغاريا وجورجيا ورومانيا. وقد عمدت أنقرة بعد نهاية الحرب الباردة للتعامل مع الدول المطلَّة على ساحله ضمن مساحات التعاون الاقتصادي وتدابير بناء الثقة دون النظر للبحر الأسود باعتباره يحتوي تهديدًا ملموسًا مقارنة بالتهديدات التي يمثلها حزب العمال الكردستاني للأمن التركي(6). ولكن تغير التصور التركي للتهديدات خلال السنوات الأخيرة مع توسيع موسكو لنفوذها في البحر الأسود بخطوات متدرجة وعنيفة.
فالبحر الأسود يقع ضمن المنطقة العسكرية الجنوبية الروسية التي تشرف على مسرح عمليات يغطي شمال القوقاز والبحر الأسود وبحر قزوين، وتحت إشرافها نُفذت عدة إجراءات تكشف عن أطماع توسعية لروسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي والبحر الأبيض المتوسط. ففي عام 2013، أعادت روسيا تخصيص قوة بحرية للعمل في البحر الأبيض المتوسط بعد سابقة تفكيك الأسطول السوفيتي الخامس المختص بالعمل في البحر المتوسط في عام 1992، ثم في عام 2014، اقتطعت موسكو شبه جزيرة القرم من أوكرانيا(7)، وهو ما وفَّر لموسكو قاعدة بحرية استراتيجية في سيفاستوبول بالقرم تمثل ثاني أهم نقطة في البحر الأسود بعد المضايق التركية، وتتيح لموسكو الانطلاق إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيقي البوسفور والدردنيل.
وجاءت الخطوة التالية من خلال التدخل الروسي في سوريا، عام 2015، ليصبح البحر الأسود هو شريان الحياة اللوجستي للقوات الروسية في سوريا(8). وقد أدى التدخل الروسي إلى تقويض فاعلية الدور التركي في سوريا. ولاحقًا بحلول عام 2017، خصَّصت موسكو معظم السفن الحربية الحديثة التابعة لأسطول البحر الأسود للعمل ضمن قوة أسطول البحر الأبيض المتوسط، وهو ما عزَّز النفوذ الروسي في تلك المنطقة الحيوية التي تتعارض فيها مصالح أنقرة مع مصالح موسكو في عدة ملفات مثل قبرص وليبيا.
عندما نضم المشهد في القرم وأوكرانيا إلى مشهد الوجود الروسي في منطقة ترانس دنيستر الانفصالية في مولدوفا، والوجود العسكري الروسي في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بعد اعتراف موسكو بانفصالهما عن جورجيا، نجد أن موسكو أصبحت صاحبة النفوذ الأكبر في البحر الأسود، وهو ما يثير المخاوف التركية من طرح موسكو مستقبلًا لمطالب تتعلق بمضيقي البوسفور والدردنيل، وهي المطالب التي تهدد مباشرة مدينة إسطنبول، العاصمة القديمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية ومعقل الأرثوذكسية في الشرق.
وتأتي تلك التطورات بالتزامن مع الأهمية المتزايدة للبحر الأسود في الاستراتيجية التركية بعد اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز تبلغ 540 مليار متر مكعب، وتأمل أنقرة في أن تخفض تلك الاحتياطيات من فاتورة استيراد الغاز سنويًّا والتي يُرجَّح أن تصل إلى 55 مليار دولار بحسب وزير الطاقة والموارد الطبيعية، فاتح دونماز(9).
ثانيًا: تهديد التعاون العسكري التركي/الأوكراني
عقب تعرض تركيا لحظر تسليح غربي إثر دخول الجيش التركي لقبرص، عام 1974، فضلًا عن القيود المشددة التي ترافق مبيعات الأسلحة الأميركية لأنقرة، اتجهت الأخيرة منذ بضعة عقود لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية لتلبية الاحتياجات العسكرية المحلية والتخلص من قيود الاستيراد التي ترهن تركيا لسياسات الدول المصدِّرة وتجعلها غير قادرة على رسم سياسات مستقلة وعاجزة عن التدخل في الملفات المهمة إقليميًّا، فضلًا عن السعي لتحقيق عائدات اقتصادية عبر تصدير الأسلحة، وهو ما بدأت تظهر آثاره في ارتفاع صادرات الأسلحة التركية من 248 مليون دولار، في عام 2002، إلى قرابة 3 مليارات دولار، في عام 2019، كما تأمل أنقرة تحقيق صادرات بقيمة 10.2 مليارات دولار، في عام 2023(10).
وقد برز الأداء المميز للطائرات المسيَّرة التركية في العمليات العسكرية في ليبيا، عام 2020، حيث أحبطت هجوم قوات حفتر على العاصمة، طرابلس، ثم لعبت دورًا محوريًّا في انتصار أذربيجان على أرمينيا في معارك إقليم قرةباغ، عام 2021، فضلًا عن دورها الفتَّاك في توجيه ضربات مؤثرة لجيش النظام السوري عقب مقتل عشرات الجنود الأتراك في سوريا، عام 2020. وقد تحققت النجاحات التركية المذكورة ضد أطراف حليفة لموسكو. ومن ثم أقبل العديد من الدول، مثل أوكرانيا وإثيوبيا والمغرب وتونس، على شراء المسيرات التركية في ظل تميزها بفاعلية الأداء ورخص الثمن وسرعة التسليم.
تعاقدت أوكرانيا، في يناير/كانون الثاني 2019، على شراء 6 طائرات مسيرة من طراز “بيرقدار-تي بي 2” وتسلَّمتها في نفس العام(11)، واستخدمتها، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، لأول مرة ضد الانفصاليين في شرق البلاد. فيما أفادت وكالة بلومبرغ، بحلول ديسمبر/كانون الأول 2021، بأن أوكرانيا ستشتري 20 طائرة مسيرة تركية جديدة بالتزامن مع توقيع اتفاقية تعاون في مجال تطوير الطائرات المسيرة بين شركة “بايكار” التركية وشركة “إفشينكو بروغراس” الأوكرانية تسمح بتزويد الطائرات التركية وصواريخ كروز المصنَّعة محليًّا في تركيا بمحركات أوكرانية، وهو ما يفيد أنقرة في التخلص من القيود الأميركية على بيع المحركات المطلوبة لتطوير الأسلحة التركية(12). ثم وصل التعاون العسكري التركي/الأوكراني ذروته بتوقيع البلدين على اتفاق لتصنيع طائرات مُسيَّرة تركية في أوكرانيا خلال زيارة أردوغان إلى كييف، في 3 فبراير/شباط 2022.
التعاون العسكري التركي/الأوكراني استفز موسكو، فطلب وزير الخارجية الروسي، لافروف، من نظيره التركي أخذ مخاوف موسكو بشأن عسكرة تركيا لأوكرانيا “بجدية قدر الإمكان”، وهو ما عقَّب عليه وزير الخارجية التركي قائلًا: لا يمكن تحميل تركيا مسؤولية نشر أوكرانيا لطائرات مسيَّرة تركية الصنع(13). وبالتالي، تحولت أوكرانيا إلى ساحة مبارزة جديدة بين السلاحين، الروسي والتركي، وستؤثر هزيمة أوكرانيا في حال حدوثها على مسيرة تعاونها العسكري مع تركيا، والذي تحتاجه أنقرة من جوانب تقنية واقتصادية.
ثالثًا: التداعيات الاقتصادية السلبية
في ظل التداعيات السلبية لكورونا على الاقتصاد التركي والتي تجلَّت في موجة التضخم التي ناهزت 48%، في عام 2021، بالتزامن مع تدهور قيمة العملية التركية، فقد راودت الآمال أنقرة في أن تتمكن -عبر الاعتماد على انتعاش السياحة وتعزيز الصادرات وتراجع أسعار النفط- من تجاوز أزمتها الاقتصادية وتقليص العجز في التجارة الخارجية البالغ 47 مليار دولار، لكن الحرب في أوكرانيا تهدد بنقيض ذلك.
عام 2021
حجم الصادرات إلى تركيا
حجم الواردات من تركيا
روسيا
28.959 مليار دولار
5.776 مليارات دولار
أوكرانيا
4.524 مليارات دولار
2.9 مليار دولار
فبحسب تقارير هيئة الإحصاء التركية عن عام 2021، تشغل روسيا المركز الثاني بعد الصين في قائمة أكبر المصدِّرين لتذكيا في حين تشغل أوكرانيا المركز الحادي عشر(14). وتعتمد تركيا على روسيا بشكل جوهري في توفير إمدادات الطاقة حيث استوردت خلال عام 2021 نسبة 43% من واردات الغاز من موسكو بما يعادل 24 من 60 مليار متر مكعب استوردتها تركيا(15). وبالتالي، فإن ارتفاع سعر الغاز بالتزامن مع تجاوز سعر برميل برنت حاجز 100 دولار نتيجة الحرب سيؤثر سلبًا على الاقتصاد التركي.
أما قطاع السياحة الذي جلب لتركيا في عام 2021 قرابة 24.5 مليار دولار، فسيتأثر هو الآخر في ظل تصدُّر السياح الروس قائمة السياح الأجانب الأكثر زيارة إلى تركيا، بواقع 4.694 ملايين سائح بينما يأتي السياح من أوكرانيا في المركز الثالث بمعدل 2.060 مليون سائح(16). وبالتالي، فإن العقوبات المفروضة على روسيا وتراجع القدرة المالية للروس والأوكرانيين ستؤثر سلبًا على قطاع السياحة التركي.
تداعيات الموقف التركي
رغم الإدانة التركية الحازمة للغزو الروسي إلا أن موسكو تمسك بالعديد من الملفات المزعجة لأنقرة بداية من ملف إمدادات الغاز والسياحة وصولًا إلى ملف إدلب ودعم الجماعات الكردية الانفصالية، وبالتالي يرجح أن تجمع أنقرة بين الحفاظ على نهج الإدانة الحازمة للغزو الروسي مع السعي للعب دور الوسيط للتفاوض ووقف الأعمال القتالية، ويُستبعد أن تنخرط تركيا في فرض عقوبات على روسيا أو قطع العلاقات معها لأن ذلك سيُلحق أضرارًا فادحة بالاقتصاد التركي.
وبالمقابل، يرجَّح أن تسهم تلك الأزمة في تعزيز العلاقات التركية-الغربية في ظل إدانة تركيا القوية للغزو الروسي، وقدرة أنقرة على توظيف موقعها الاستراتيجي في البحر الأسود لمنع مرور السفن الحربية الروسية عبر مضيقي البسفور والدردنيل، كما يمكن أن تستفيد تركيا من تداعيات الضغط الغربي المتزايد على روسيا في حال تأثيره على مستوى حضور موسكو في الملفين، السوري والليبي.
ويمكن للغرب أن يجذب تركيا بشكل أكبر إلى صفه في حال تقديمه لإغراءات لها في بعض الملفات، مثل الملف الكردي وملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وملف تعزيز التعاون العسكري والصناعات الدفاعية المشتركة وملف شرق المتوسط.
إن المصالح التركية تكمن في كبح جماح نزعات التوسع الروسية، والحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية، ووقف الحرب في أقرب وقت لتلافي التداعيات الاقتصادية المدمِّرة، ولكن في حال توسع الصراع وامتداده إلى بلاد أوروبية أخرى فحينها ستضطر تركيا للتخلي عن دور الوساطة للوفاء بالتزاماتها تجاه الناتو.
أحمد مولانا