الدراسات والبحوث

قلق أوروبي من حرب مرتقبة تؤثر على مصدرها من الغاز

● مع اشتعال الأزمة الأوكرانية، تتزايد المخاوف الغربية من أن تتسبب الحرب في توقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، لاسيما وأن موسكو اعتادت على استخدام الغاز كسلاح وورقة ضغط في أزمات مماثلة، لذا تسابق الولايات المتحدة وحلفائها الزمن لإيجاد شحنات غاز بديلة من كبار مصدري الغاز عالميا.

● تبدي قطر، ثاني أكبر مورد عالمي للغاز المسال، جدية للمساهمة في تأمين إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي، ومع ذلك يبدو أن قطر لن تستطيع سوى إرسال بعض شحنات الغاز المسال بالعقود الفورية، بالإضافة إلى إقناع عملائها الآسيويين بالتنازل عن جزء من حصتهم لصالح أوروبا، في نهاية المطاف لا يمثل ذلك سوى كميات ضئيلة لن تقدم حلول عملية لأزمة الغاز الأوروبية.

● لن تكون أوروبا قادرة على إيجاد بدائل عاجلة للغاز الروسي في حال اتجهت موسكو إلى السيناريو الأسواء وأوقفت جميع تدفقات الغاز إلى أوروبا، أما في حال لجوء روسيا إلى سيناريو تقليص واردات الغاز إلى أوروبا، من خلال منع ضخه عبر أوكرانيا فقط، فإن أوروبا سيمكنها إيجاد بدائل للغاز الروسي؛ ولكنها ستظل بدائل مؤقتة وغير مستدامة بسبب تكلفتها الباهظة.

● هناك تباين حقيقي بين ألمانيا من جهة وأمريكا ودول أوروبية من جهة أخرى حول حجم ونوعية العقوبات على روسيا، ويتسبب اعتماد ألمانيا الكبير على الغاز الروسي في الحد من خيارات الغرب في أزمة أوكرانيا، وهو الأمر الذي تبذل معه الولايات المتحدة جهودا كبيرة لتوحيد الموقف الغربي تجاه العقوبات الروسية.

● على المدى القريب، تبدو خسائر روسيا إذا قامت بوقف تدفق الغاز إلى أوروبا محدودة، أو يمكن لروسيا تحملها وتعويضها، ولكن على المدى البعيد، ستواجه روسيا صعوبات في تأمين عقود طويلة الأجل في أسواق الغاز العالمية؛ بسبب سمعتها كمورد موثوق به والتي أصبحت محل شكوك وتخوفات.
مقدمة: أزمة الغاز في أوروبا تحت وطأة الشتاء القارس

• يساهم الغاز الطبيعي في إنتاج نحو 20% من إجمالي الكهرباء المولدة داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى استخدامه في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وكذلك في التدفئة المنزلية، ولا يمثل الانتاج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي سوى حوالي 9% من إجمالي استهلاك الغاز في 2021، وتعتبر روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بنحو 40% من احتياجات الاتحاد من الغاز الطبيعي، وتتضمن قائمة أكبر الموردين للغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب بعد روسيا كلا من النرويج 22% والجزائر 9%، بينما تلبي واردات الغاز المسال 18٪ من احتياجات الاتحاد، وتأتي في الغالب من الولايات المتحدة وقطر.

• تعرضت أوروبا في الشهور الأخيرة من عام 2021 لأزمة طاقة لاتزال مستمرة حتى الآن، حيث ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي إلى مستويات غير مسبوقة، متجاوزة 30 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية مقارنة بالأسعار في الولايات المتحدة التي لا تتخطى 4 دولار.
هناك عدة أسباب اقتصادية وفنية تفسر أزمة الغاز الأوروبية:

ارتفاع الطلب العالمي على الغاز الطبيعي، لاسيما في الأسواق الآسيوية التي سارعت إلى جذب مزيد من واردات الغاز الطبيعي في إطار سعيها للتعافي من جائحة كورونا.
سياسات الطاقة التي أقرها الاتحاد الأوروبي في سياق التحول من الاعتماد على الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) إلى الطاقة النظيفة والمتجددة لمواجهة أزمات التغير المناخي، ويبدو أن التقاعد المبكر للعديد من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم ومحطات الطاقة النووية قد ساهم في زيادة الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي.
التوقعات التي سبقت فصل الشتاء في 2021 والتي أشارت إلى درجات حرارة منخفضة جدا، بالإضافة إلى انخفاض مستويات الغاز الطبيعي في مستودعات التخزين الأوروبية إلى أقل من 50٪ من السعة الإجمالية لمستودعات التخزين؛ ساهما في ارتفاع كبير في الطلب على الغاز.
أعمال الصيانة التي قامت بها النرويج (أكبر منتج أوروبي للغاز الطبيعي) في البنية التحتية للغاز الطبيعي خلال الشهور الأخيرة في 2021، حيث تسببت في تراجع إنتاج النرويج.
الغاز الروسي.. سلاح بوتين الجيوسياسي

• لا تكفي الأسباب الفنية والاقتصادية فقط لتفسير تفاقم أزمة الغاز الحالية في أوروبا، حيث تبدو الاعتبارات الجيوسياسية أيضا حاضرة بالنظر لقدرة روسيا على توظيف نفوذها كمورد رئيسي للغاز، تعتمد عليه أوروبا في توفير أكثر من ثلث استهلاك الاتحاد من الغاز الطبيعي.

• يتدفق الغاز الروسي عبر خطوط أنابيب تنطلق من غرب روسيا إلى العديد من دول أوروبا، ويأتي خط “الأخوة” الذي يمر عبر أوكرانيا إلى شرق ووسط أوروبا في المرتبة الأولى من ناحية القدرة التصديرية والتي تتجاوز 150 م م3/س (مليار متر مكعب سنويا)، ثم يأتي خط “نورد ستريم-1” الذي يربط بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق في المرتبة الثانية، وتبلغ قدرته التصديرية 55 م م3/س، مع الأخذ في الاعتبار أن خط “نورد ستريم-2” الذي لم يتم تشغيله بعد لديه نفس المسار والقدرة التصديرية لخط نورد ستريم-1، وتشمل مجموعة الخطوط المتبقية، خط “يامال” الذي يمر عبر كل من بيلاروسيا وبولندا قبل أن يصل إلى ألمانيا وتبلغ قدرته التصديرية 33 م م3/س، وخط “ترك ستريم” الذي يمر عبر البحر الأسود وتركيا قبل أن يصل إلى شرق وجنوب أوروبا وتناهز قدرته التصديرية 31.5 م م3/س، بناء على ذلك؛ فإن قدرات التصدير الروسية تبلغ 270 م م3/س، بينما بلغت صادرات الروسية إلى أوروبا حوالي 150 مليار متر مكعب في 2021؛ مقارنة ب 180 مليار متر مكعب في 2019، وتشير تلك الأرقام إلى حجم تقليص صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا؛ وتؤكد أيضا على قدرة روسيا على زيادة صادراتها بما يناهز ثلث صادراتها الحالية إلى أوروبا وإنهاء أزمة الغاز الحالية.

• تاريخيا، لم يقم الاتحاد السوفيتي بقطع صادراته عن أوروبا حتى في ذروة الحرب الباردة، ومع قدوم بوتين إلى الكرملين بدا أن ثمة تغير في سياسة تصدير الغاز إلى أوروبا، وتحوله إلى أداة سياسية خلال الأزمات، خاصة خلال الأزمات بين روسيا وأوكرانيا حول أسعار الغاز الطبيعي في عامي 2006 و2009، حيث تطور الأمر في أزمة 2009 إلى انقطاع كامل للغاز المتدفق عبر أوكرانيا لمدة 13 يوم، مما أدى إلى انخفاض واردات الغاز في 18 دولة داخل أوروبا، لم تتوقف روسيا عن مواصلة سياستها في استخدام الغاز كسلاح وورقة ضغط خلال أزمة أوكرانيا، حيث استخدمت نفس تهديداتها السابقة في عام 2014، وفي خضم صراعها مع أوكرانيا حول شبه جزيرة القرم.

• ساهمت روسيا بأكثر من طريقة غير مباشرة في حالة الاضطراب التي تشهدها أسواق الغاز الأوروبية في الوقت الراهن، فمع اقتراب شتاء 2021 رفض عملاق الغاز الروسي جازبروم بيع المزيد من الغاز لأوروبا من خلال العقود الفورية، بينما واصل التزامه بالعقود طويلة الأجل، تحت ذريعة مواجهة الطلب المتزايد في السوق المحلية الروسية، بالإضافة إلى إعادة ملء مستودعات التخزين لديها، في نفس الوقت قامت روسيا بتعطيل الغاز المتدفق عبر خط “يامال” أكثر من مرة، ثم أوقفت تدفق الغاز عبر الخط بشكل كامل منذ نهاية ديسمبر 2021 وحتى الآن، كما خفضت روسيا صادراتها عبر أوكرانيا لتصل إلى 40 مليار متر مكعب في 2021، وهو ما يوازي ربع الكمية المتدفقة في عام 2019.

• إجمالا، انخفضت تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا في يناير 2022 حوالي 41% مقارنة بالعام الماضي، ويمكن النظر إلى تلك السياسة في سياق أوسع يشمل المواجهة بين موسكو والغرب بشأن أوكرانيا، حيث يبدو أن التخفيض الروسي جاء ضمن خطوات استباقية سعت روسيا لاتخاذها قبل أن تحشد قواتها على الحدود الأوكرانية، واستهدفت منها الضغط على أسواق الغاز الأوروبية مما يصعب معه فرض أوروبا عقوبات اقتصادية ضد روسيا في حال قامت الأخيرة بتدخل عسكري في الأراضي الأوكرانية، حيث سيكون على أوروبا – التي تعاني من أزمة غاز حادة – تحمل تكلفة باهظة اقتصاديا أمام رد الفعل الروسي المتوقع بخفض أو قطع إمدادات الغاز عن أوروبا.
قدرة أوروبا على استبدال الغاز الروسي

• سارع الاتحاد الأوروبي بعد أزمة 2009، باتخاذ خطوات تقلل من اعتماده على الغاز الروسي، حيث أقر استراتيجية تنويع مصادر الغاز، والتعاون بين دول شرق المتوسط كبديل محتمل، بالإضافة إلى تحويل غالبية عقود الغاز طويلة الأجل إلى العقود الفورية، وإنشاء شبكة كثيفة من خطوط الأنابيب الداخلية لربط دول الاتحاد الأوروبي، الجهود الأوروبية استطاعت أن تطور منظومة الغاز الطبيعي داخل القارة، وخلقت مسارات جديدة لتأمين إمدادات الغاز، ولكنها ظلت عاجزة عن تقليص اعتمادها على الغاز الروسي، ولم تستطع أن تغير من قواعد اللعبة مع روسيا، التي لا تزال تستخدم الغاز كسلاح جيوسياسي.

• المخاوف الأوروبية والأمريكية من أن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا قد يتسبب في تخفيض أو قطع إمدادات الغاز عن الاتحاد، دفعت قادة الغرب وعلى رأسهم “بايدن” للسعي في إيجاد بدائل عاجلة، تركزت أغلب تلك الجهود في البحث عن شحنات الغاز المسال كبديل لتأمين إمدادات الغاز إلى أوروبا على المدى القريب.

ثمة عاملان رئيسيان يتحكمان في قدرة أوروبا على استبدال شحنات الغاز المسال بالغاز الروسي:
أولاً، توفر البنية التحتية اللازمة لاستقبال الغاز المسال:
حيث تحتاج الدول المستقبلة لشحنات الغاز المسال إلى محطات إعادة تحويل الغاز المسال من الحالة السائلة إلى الغازية (Regasification)، ومن ثم ضخه عبر خطوط أنابيب داخلية ليصل إلى المستهلك، وقد ضاعفت أوروبا في أعقاب أزمة أوكرانيا 2009 عدد محطات إعادة الغاز المسال للحالة الغازية لتصل إلى 28 محطة ، تستطيع هذه المحطات نظريا أن تلبي 43% من احتياجات أوروبا للغاز الطبيعي، أي أنها تستطيع أن تستقبل كميات من الغاز المسال تكافئ الغاز الروسي، ولكن غالبية تلك المحطات تتركز في شمال غرب أوروبا، وهذا يعني أن هذه المحطات من الناحية العملية لن تستطيع تلبية احتياجات وسط وشرق أوروبا.

ثانياً، كمية الغاز المسال المعروض في السوق العالمي،
حيث اقتربت، أو تجاوزت، القدرات التصديرية الحالية للدول الكبرى المصدرة للغاز المسال الحد الأقصى، خاصة مع زيادة الطلب في الأسواق الآسيوية التي تتعافى وتحاول استعادة معدلات إنتاجها الصناعية قبل جائحة كورونا، ومع الأخذ في الاعتبار صعوبة زيادة الدول المصدرة للغاز المسال من حجم إنتاجها وقدراتها التصديرية في وقت قصير، فإن كميات الغاز المسال المتوفرة للبيع حاليا في السوق العالمي محدودة، ولا يمكنها أن تحِل بديلا عن إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، بناء على ذلك، سيكون البديل الرئيسي المتاح أمام أوروبا لاستبدال الغاز الروسي، هو الحصول على شحنات الغاز المسال المتجه بالفعل إلى جهات أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: