الحرس الثوري وإسرائيل.. الحرب الصامتة على تراب سوريا
كانت هذه العبارة أحد أقوى وأبكر التبريرات التي قدَّمتها إيران لتدخُّلها في سوريا عام 2011، وهي تستمد دلالتها من كونها صدرت على لسان حجة الله مهدي طائب، مسؤول الاستخبارات الأسبق في الحرس الثوري ورئيس مركز “قاعدة عمار” البحثي المقرب من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية “علي خامنئي”. وقد صار واضحا طيلة السنوات العشر الماضية أن الإستراتيجية التي تحكم عقول قادة إيران هي أن سوريا حليف قديم وحصن منيع ونُقطة لا مفرَّ من حمايتها في خط النفوذ الإيراني المُمتد من العراق حتى لبنان، وأنها خط دفاع رئيسي أيضا في الدفاع عن إيران ضد التهديد الأميركي (ومن خلفه الإسرائيلي) المتواصل لنظام الحكم في إيران منذ نشأته عام 1979.
ومن هذا المنطلق، نظرت إيران إلى الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 بوصفها تهديدا خطيرا ينال أحد الأضلع المركزية فيما تسميه طهران محور المقاومة أو الممانعة، ومن ثمَّ بذلت الغالي والنفيس لحماية نظام الأسد، ونجحت في مسعاها إلى حدٍّ كبير، لا سيما مع تدخُّل روسيا عسكريا لتعضيد وجود إيران العسكري على الأرض.
تعاظم الحضور العسكري الإيراني على الأراضي السورية بمرور الوقت، وتوافد الجنرالات والضباط والمرتزقة التابعون للحرس الثوري من كُل حدب وصوب لتلبية نداء الحرب من أجل الأسد. ففي عام 2013، أرسلت طهران القائد “حسين همداني” للإشراف على عمليات فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني (قُتِل الرجل في أكتوبر/تشرين الأول 2015 في ضواحي حلب)، وهو رجل امتلك خبرة واسعة في قمع الحركات الانفصالية الكردية في كردستان الإيرانية في أعقاب ثورة 1979، ثم في الحرب العراقية-الإيرانية، كما نجح عامي 2009 و2010 في قمع التجمُّعات المناهضة للنظام في طهران بفعالية، مما جعله نموذجا لنقل خبراته إلى نظام الأسد الذي واجه مزيجا من الاحتجاجات والانتفاضات المسلحة والحروب غير النظامية على حدٍّ سواء منذ عام 2011.
في سنوات التدخُّل الأولى، عملت إيران على تعزيز وجودها العسكري بالعمل مباشرة مع الميليشيات الأجنبية التابعة لها (العراقية والأفغانية والباكستانية واللبنانية) وتجنيد الميليشيات المحلية، قبل أن تلجأ إلى دمج الميليشيات الإيرانية نفسها في بنية جيش الأسد وأفرعه الأمنية بُغية منح تلك القوات مظلَّة قانونية مستدامة وحماية من الضربات الجوية الإسرائيلية أو الأميركية المُحتملة آنذاك. واستعانت طهران بقوات حزب الله اللبناني مع تشجيع الأقلية الشيعية في سوريا على تشكيل ميليشيات خاصة بها، وتجنيد أبناء العشائر في محافظات “حَلَب” و”الرقَّة” و”دير الزور” تحت أولوية قوات الدفاع الوطني وقوات الدفاع المحلية والميليشيات الشيعية السورية. وعلاوة على ذلك، حشدت طهران عناصرها القتالية في سوريا تحت شعار “حماية الأضرحة الشيعية”، فيما تولَّى الحرس الثوري وحزب الله تدريب المقاتلين من المليشيات المحلية والأجنبية في معسكرات داخل إيران استعدادا لنقلهم إلى سوريا للمشاركة في ساحات القتال. وقد مُنِحَت تلك القوات رواتب جيدة بالمقارنة مع غيرها من القوات المقاتلة في سوريا، إذ مُوِّلت بمليارات الدولارات سنويا من الميزانية الرسمية وغير الرسمية المخصصة للحرس الثوري.
التدخُّل الروسي والتفاهمات الإسرائيلية.. السُّلَّم والثعبان
بيد أن عام 2015، الذي شهد بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا، كان مفصليا بالنسبة لطهران، حيث ضمنت فيه وجود قوة عسكرية دولية ثقيلة داعمة لقواتها وحليفها السوري مع غطاء جوي فعَّال، بما مَكَّنها من استعادة الأراضي التي سقطت في يد المعارضة السورية الواحدة تلو الأخرى. وبالفعل بدأ التعاون العسكري الروسي الإيراني سريعا، فتعاونت بعض القوات الخاصة الروسية مع القوات المدعومة من إيران، وباتت على اتصال وثيق بضباط الحرس الثوري الموجودين على الأرض. ولتسهيل التنسيق الروسي مع هذه الأطراف، وُضعت عناصر اتصال من المخابرات السورية ومن الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وغيرها في مركز القيادة الروسي في “حميميم” تحت قيادة القوات المسلحة الروسية، وبقدر ما منحت هذه العناصر الروس معرفة دقيقة بالأوضاع على الأرض، بقدر ما حصلت هي منهم على خبرات في الحروب غير النظامية وفي إدارة العمليات العسكرية لم تكُن لتحلُم بالحصول عليها في تلك الفترة الوجيزة ومن دولة مهمة مثل روسيا.
في تلك الأثناء، انتهجت إيران وروسيا معا “سياسة الأرض المحروقة” من أجل استعادة السيطرة على مناطق واسعة كانت تحت سيطرة المعارضة الروسية، فقصفتا تلك المناطق (روسيا بالأخص) بالبراميل المتفجرة والأسلحة الثقيلة، كما استعادتا بعضها الآخر عبر اتفاقيات تسوية في مناطق عدة. بيد أن التعاون الروسي-الإيراني المتنامي على قدم وساق، والوجود العسكري الإيراني المتزايد الذي أخذ يضرب بجذوره في أرض سوريا إلى غير رجعة، سرعان ما أقلق دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ لم يكُن بوسعها أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى غريمها الرئيسي يتمدَّد على حدودها المباشرة، ويتطلَّع بناظريه إلى أراضيها من جنوب لبنان تارة ومن جنوب سوريا تارة أخرى، لا سيما والصراع الإقليمي بين الدولتين يحتدم على خلفية التباين بين الدول الغربية الراغبة في احتواء النظام الإيراني وتقييد طموحه النووي، وبين تل أبيب الراغبة في تقويض النظام الإيراني تقويضا يُنهي وجوده بشكل شبه كامل من المنطقة.
قرَّرت تل أبيب في البداية التواصل مع الروس والتنسيق معهم بشأن احتياجاتها الأمنية، ومن ثمَّ ظهر إلى النور اتفاق روسي-إسرائيلي تضمَّن إبعاد إيران وميليشياتها عن المناطق الحدودية مع إسرائيل. ومن ثمَّ انحنت طهران لرياح الاتفاقات الأمنية الروسية-الإسرائيلية، وركَّزت على ترسيخ نفوذها في محافظات “حَلَب” و”حِمْص” و”دير الزور” والأراضي الحدودية اللبنانية، وكذلك شرق سوريا الذي نشر فيه الحرس الثوري ميليشياته على نطاق واسع وحوَّل معها المنطقة إلى ثكنة عسكرية ومستودع لجميع أنواع الذخيرة والصواريخ الخاصة به.
بحلول صيف 2017، بدا أن إيران تبذل جهدا أكبر لتحويل سوريا إلى منصة عسكرية مناوئة لإسرائيل على وجه الخصوص، وأن هدف حماية نظام الأسد وحده لم يعُد المحرك الرئيسي لإستراتيجيتها بعد أن بات مرهونا بالقوة الروسية في المقام الأول. ولذا عزمت إيران على إنشاء بنية تحتية عسكرية تشمل قواعد دائمة ومطارات وقواعد بحرية تابعة للحرس الثوري الإيراني طيلة السنوات الخمس الأخيرة، وكذلك تدشين منشآت للصناعات العسكرية في سوريا ولبنان تُفوِّت على الإسرائيليين فرصة قصف قوافل الإمدادات من طهران وبغداد إلى دمشق وبيروت. ولكن سرعان ما أتت الرياح بما لا تشتهي سفن طهران، فمع حلول عام 2018 بدأت الغارات الجوية الإسرائيلية المتتالية بتنسيق مع موسكو وأنهكت الوجود العسكري الإيراني في سوريا وقوَّضت الكثير من خططه تلك.
وعلى إثر ذلك، تحوَّل الحرس الثوري الإيراني نحو استخدام تكتيك مختلف، حيث قلَّص نشاط الميليشيات الإيرانية واعتمد أكثر على سماسرة محليين للعمل بالنيابة عنه، مثل لواء بدر العراقي. كما عملت طهران بالتوازي على التغلغل الاقتصادي في سوريا، فأعادت تنشيط منتدى الأعمال السوري الإيراني عام 2018، الذي لعب دورا أساسيا في انتشار المشاريع الإيرانية في شتى أنحاء سوريا، مع التركيز على مشاريع توليد الطاقة لأهميتها الإستراتيجية. وعملت طهران مع المنظمات الخيرية للاندماج في المجتمع السوري وتلبية احتياجاته في ظل الأزمة الاجتماعية القائمة منذ 2011، حيث صارت “منظمة جهاد البناء” واحدة من أهم المنظمات المدعومة من إيران، التي تعمل بالأساس في ملف إعادة المدارس والمراكز الصحية للعمل بشكل طبيعي، وبالأخص في محافظتَيْ “دير الزور” و”حَلَب”. يُضاف إلى كُل ذلك المراكز الثقافية الإيرانية، التي تلعب دورا مهما في نشر الثقافة الفارسية والشيعية.
معركة “هامشية” على الأرض السورية
في منتصف فبراير/شباط 2018، تفاجأ الإسرائيليون بطائرة مُسيَّرة تخترق مجالهم الجوي، وسرعان ما كشفوا أنها انطلقت من قاعدة “التياس” الجوية العسكرية (المعروفة باسم القاعدة “تي-4”) القريبة من “تدمُر” السورية. وقد أتى الرد الإسرائيلي صاعقا وعاجلا، إذ هاجم الطيران الجوي الإسرائيلي القاعدة المأهولة في وضح النهار، ودُمِّرت على إثر الهجوم وحدة القيادة والتحكُّم الإيرانية الموجودة فيها، كما شهدت المعركة نفسها إسقاط طائرة إسرائيلية بواسطة الدفاع الجوي السوري، مما دفع إسرائيل إلى قصف الدفاعات الجوية السورية. لم تكن تلك أول عملية إسرائيلية من نوعها بطبيعة الحال، فقد انطلقت أولى هجمات إسرائيل ضد الوجود الإيراني في يناير/كانون الثاني 2013، حين وجَّهت ضربتها الأولى نحو موقع لصواريخ أرض-جو قُرب دمشق ومجمع عسكري اشتبهت في احتوائه على مواد كيماوية.
وقد ركَّزت الغارات الإسرائيلية في السنوات الأولى على مستودعات أسلحة حزب الله وتدمير ممرات نقل الأسلحة من إيران عبر سوريا إلى لبنان، ولكن سرعان ما تحوَّلت المخاطر في نظر إسرائيل إلى ما هو أكثر من مجرد نقل السلاح واستهداف القوات، وباتت تل أبيب بحاجة إلى خطة جديدة لمواجهة طهران. تزامن ذلك بالطبع مع التدخُّل الروسي في 2015، وما شهده العام نفسه من إبرام الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، الذي رفضته إسرائيل واعتبرته فرصة لتقوية إيران وتعزيز دعمها لمليشياتها. ولذا، انتقلت إسرائيل نحو تكثيف عملياتها العسكرية لضرب مصانع الأسلحة والصواريخ الإيرانية في سوريا لتقويض إستراتيجية إيران الجديدة، فاستهدف سلاح الجو الإسرائيلي بين عامَيْ 2013-2017 نحو 1200 هدف بأكثر من 5500 قنبلة، وذلك خلال 408 مهمة قتالية. وتزايد النشاط العسكري الإسرائيلي في عام 2021 الذي شهد وحده تنفيذ عشرات العمليات الجوية باستخدام 586 قنبلة ضد 174 هدفا.
لعبت التفاهمات الروسية-الإسرائيلية دورا مهما في إطلاق يد تل أبيب في السماء السورية، إذ فتحت موسكو نافذة للإسرائيليين كي يضربوا الأهداف الإيرانية وقتما شاؤوا، وثمَّة شواهد صريحة على أن موسكو غضَّت بصرها عن الضربات الإسرائيلية، كما حدث عندما شنَّت إسرائيل غارتها على ميناء “اللاذقية” على مرمى ومسمع الروس في قاعدة “حميميم” في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي. ولم تُمانع موسكو من تكثيف تل أبيب لهجماتها، إذ إنها استفادت من إبقاء الميليشيات الإيرانية تحت الضغط وفي مرمى نيران إسرائيل، وذلك لمنع توسع النفوذ الإيراني على حساب الروسي، ولمنع طهران من الانفراد بمفاتيح السلطة في دمشق.
رغم التوترات التي مَسَّت العلاقات بين إسرائيل وروسيا بين الفينة والأخرى، واصلت تل أبيب تفاهماتها مع الروس، ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي جدَّد الجانبان التنسيق بشأن العمليات العسكرية في سوريا، وذلك بعد فترة من العلاقات المتوترة بسبب تغيير الحكومة في إسرائيل. وظهر جليا بعد تجديد الاتفاق ارتفاع كبير في أعداد الضربات الإسرائيلية التي تركَّزت على المناطق الساحلية والوسطى وحول مدينة دمشق، كما ازداد تواتر الضربات الإسرائيلية وحجمها ونطاقها الجغرافي فشملت أهدافا جديدة.
بعد حرب أوكرانيا.. سوريا تدخل مرحلة جديدة
في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، انتظرت إسرائيل عشرة أيام فقط قبل أن تعود وتستأنف ضرباتها الجوية الاعتيادية في سماء دمشق، وكانت أولى ضرباتها بعد الحرب في 7 مارس/آذار الماضي. ففي ذلك اليوم، شنَّت إسرائيل غارة قرب مطار دمشق قُتل فيها عقيدان في الحرس الثوري الإيراني وأُصيب ستة من رجال الميليشيات الموالية لإيران. وفي 22 مايو/أيار قُتل العقيد الإيراني “حسن صياد خضيعي”، فيما كان الجنرال “أبو الفضل عليجاني” الذي قُتل في أغسطس/آب الماضي أبرز مَن قُتل من قادة الحرس مؤخرا في سوريا.
لم تقتصر النشاطات الإسرائيلية على الاغتيالات المُوجهة. في مساء يوم الخميس الموافق 16 إبريل/نيسان 2022، وبينما قضى سكان مدينة “قطنا” الواقعة جنوب غرب العاصمة السورية ليلة هادئة، باغتهم صوت انفجارات متتالية، وقد اعتقدوا في البداية أنها تدريبات عسكرية يقوم بها عناصر المليشيات المسلحة الذين استولوا على المناطق الزراعية المحيطة ببلدتهم، حيث أغلقت الفرقة العاشرة الطرق التي تمر بالقرب منهم وحوَّلت المكان إلى مركز تدريب للطائرات المُسيَّرة. ولكن المفاجأة هي أن بلدتهم تعرَّضت لتوِّها لهجوم جوي إسرائيلي.
بعد أسبوع واحد فقط، عادت الطائرات الإسرائيلية وقصفت أهدافا جديدة في بلدتَيْ “رخلة” و”عين الرضوان” التابعتين لمدينة “قطنا”. وشملت الأهداف مصنعا لتجميع الطائرات المُسيَّرة، ومركزا للبحوث العلمية في منطقة “جمرايا” كان قد تعرَّض لهجمات متكررة في السنوات الماضية، ومستودعات يستخدمها الحرس الثوري وحزب الله لتطوير الطائرات المُسيَّرة، ونقل إليها الحرس الثوري آنذاك صواريخ ومنظومة تشويش ومنظومة رادار للإنذار المبكر.
وعلى ما يبدو، أثارت الحرب الأوكرانية مخاوف إسرائيل ودفعتها لتكثيف عملياتها. لم تكُن المخاوف الإسرائيلية في تلك المرحلة مرتبطة بردود الإيرانيين بقدر ما كانت مرتبطة بما أحدثته الحرب الأوكرانية من تحوُّلات في المشهد السوري أثَّرت على التنسيق بين موسكو وتل أبيب. فبعد شهر واحد من بدء الحرب، سحبت روسيا جزءا من قواتها في سوريا، بما في ذلك المرتزقة، ونقلتهم إلى أوكرانيا، كما تركت تلك القوات -دون إعلان رسمي- قاعدة “حميميم” العسكرية، ومطارات “القامشلي” و”دير الزور” و”التيفور” و”تدمُر”، وسلَّمت مستودعات “مهين” العسكرية شرق “حِمْص”، أحد أكبر مستودعات السلاح بسوريا، إلى المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني.
بعد تلك الانسحابات مباشرة، عجَّلت طهران بملء الفراغ الروسي في سوريا، فأشرف الحرس الثوري الإيراني على بناء مقرات ومستودعات جديدة، وأقام معسكرَ تدريبٍ جديدا على مشارف “حَلَب” لتدريب أعضاء حزب الله، كما نقل أسلحة وذخائر من ريفَيْ “حِمْص” و”حماة” إلى ريف “حَلَب” لتأمينها في مواقع جديدة. وشملت التغييرات إنشاء ميليشيا جديدة كليا أيضا لتنفيذ المهام التي اضطلعت بها سابقا القوات الروسية على الأرض. وقد أدَّى كُل ذلك، مع انحياز إيران إلى روسيا في حربها داخل أوكرانيا وانحياز إسرائيل إلى الغرب، إلى تعزيز التحالف الروسي-الإيراني على حساب التنسيق الروسي-الإسرائيلي، وتوسيع هامش حرية الحركة الإيرانية داخل سوريا مقابل تقويض الأهداف الأمنية لإسرائيل، مما استتبع اتجاه إسرائيل نحو تكتيكات جديدة لتنفيذ أهدافها تنطوي فعليا على التحرُّك دون غطاء التنسيق مع موسكو، وهو ما عنى ضمنيا زيادة احتمالية الصدام المباشر مع الإيرانيين.
تزايد فرص الاصطدام الإيراني-الإسرائيلي
في الحقيقة، إن الصدام الذي يخشاه الجميع كان على وشك الحدوث بالفعل. في 13 مايو/أيار الماضي، انطلقت ست مقاتلات من طراز “إف-16” تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي لتقصف مواقع لمركز البحوث العلمية السوري في “مصياف” وميناء “بانياس”. وبالفعل دمَّرت الصواريخ التي أطلقتها المقاتلات المواقع التي قال الإسرائيليون إنها تُستخدم قاعدةً للقوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها كما أظهرت صور الأقمار الصناعية التي التُقطت بعد الغارة. ولكن بينما هَمَّ سلاح الجو الإسرائيلي بمغادرة السماء السورية، باغتته لأول مرة نيران صواريخ متطورة مضادة للطائرات، وهي صواريخ مختلفة عن الصواريخ أرض-جو القديمة (من طراز “TKA”) التي اعتاد النظام السوري إطلاقها أحيانا ضد المقاتلات الإسرائيلية.
سرعان ما عرف الجميع أنها صواريخ “إس-300” الروسية، وأن تلك أول مرة تُستخدم فيها المنظومة بالفعل ضد سلاح الجو الإسرائيلي في سماء سوريا، وهي منظومة يشغلها الجيش الروسي دون غيره منذ أن نقلها إلى سوريا عام 2018 رغم اعتراضات إسرائيل آنذاك. وقد استوعب الإسرائيليون أن هناك تطورا مثيرا للقلق بالنسبة لهم، فقد نفَّذوا مئات الغارات الجوية داخل سوريا ضد المواقع المرتبطة بإيران، ولم يسبق أن واجهوا مثل ذلك الأمر من قِبَل القوات الروسية التي من المفترض أنها ملتزمة باتفاق غير مُعلَن بين البلدين يقضي بعدم وقوع احتكاكات بين الطرفين.
كانت تلك إشارة قوية وصادمة على تغيُّر موقف روسيا من التحركات الإسرائيلية العسكرية في سوريا، وقد صَمَت الإسرائيليون أسبوعا كاملا قبل البوح بتفاصيل الحادثة، التي أتت وسط تصاعد التوتر بين إسرائيل وروسيا بسبب إدانة إسرائيل للحرب الروسية في أوكرانيا. وقد أثارت هذه الحادثة مخاوف دولة الاحتلال من أن تعترض روسيا حرية إسرائيل الجوية في سوريا، في وقت تُصِرُّ فيه تل أبيب أكثر من أي وقت مضى على منع تطوُّر الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني إلى جماعات راسخة وأكثر تعقيدا داخل بنية النظام السوري، لا سيما على مستوى التسليح.
في الواقع، تبدو معركة إسرائيل والحرس الثوري في سوريا كبيرة ومتشعِّبة، إذ إن إيران اليوم أشد جرأة في استهداف إسرائيل وحليفها الأميركي، وأكثر إصرارا على الانتقام بضرب أهداف إسرائيلية، بدليل حادث قصف قاعدة “التنف” بسوريا وواقعة قصف منشأة تدريب إسرائيلية في “أربيل”. كما يُقدِّر المسؤولون الإسرائيليون أن اليد العليا لإيران في سوريا ستغذي الثقة بالنفس لدى النظام السوري وحزب الله وحماس والجماعات المسلحة الأخرى عند مواجهة إسرائيل من سوريا أو لبنان أو الضفة الغربية أو غزة، وستسهل الضربات الانتقامية الإيرانية ضد أراضيها، ومن ثمَّ تنفي الميزة الإستراتيجية لقدرات إسرائيل الجوية بعيدة المدى.
صارت روسيا إذن أشد صرامة في تحدي المصالح الإسرائيلية إلى حدِّ اعتراض العمليات الإسرائيلية بالصواريخ، ومن المتوقع أن يشهد المستقبل القريب احتكاكات أكثر في العلن قد تجر طهران وتل أبيب نحو تصعيد أكبر، إذ يبدو أن الطائرات المُسيَّرة هي السلاح المفضل لدى النظام الإيراني، أما الإسرائيليون فسيصيرون حتما أكثر عدوانية في أعمالهم الانتقامية لوقف حرب الطائرات تلك، والحيلولة دون نجاح الإستراتيجية الإيرانية في سوريا، لا سيما في خضم محاولات غربية لإحياء الاتفاق النووي، وسعي إسرائيلي حثيث كي لا يظهر اتفاق إلى النور.
وحدها الأيام القادمة ستكشف عمَّا ستقوم به تل أبيب كي تضمن ألا تحقق إيران فوزا ثلاثيا بتعزيز التحالف مع روسيا على حساب إسرائيل، وفتح باب العلاقات مع الغرب ومن ثمَّ رفع العقوبات، وزيادة التغلغل داخل سوريا إلى غير رجعة بعد انشغال موسكو بحرب أوكرانيا، وهي مكاسب تجري على قدم وساق في أحد فصول التقدُّم السريع للإيرانيين دبلوماسيا وعسكريا، ولا يبدو أن إسرائيل ستنجح في إيقافها دون المخاطرة بنشوب المزيد من جولات القتال.