السياقات المحتملة التركية تجاه الملف السوري
عُقد في 3 أيلول/ سبتمبر الجاري اجتماع في مطار ولاية غازي عنتاب في الجنوب التركي وقد ضم الاجتماع إلى جانب ممثلين عن وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات التركية MT، كلا من الائتلاف الوطني السوري والحكومة المؤقتة، وهيئة التفاوض، ومجلس القبائل والعشائر، وقادة من الجيش الوطني وقد ناقش الاجتماع غدة قضايا منها فتح “معبر أبو الزندين”
حيث أكّد الجانب التركي على أنّ قرار إعادة تفعيله تجاري بحت، ولا علاقة له بأي ملف سياسي، ويعتبر هذا الاجتماع الأول من نوعه من حيث اجتماع كل مؤسسات المعارضة مع الجانب التركي فهل يعتبر هذا الاجتماع الأول من نوعه وبداية توجهات تركية جديدة في الملف السوري.
وسنناقش في هذا التقرير السياقات المحلية والإقليمية والخطة الاستراتيجية المستقبلية التركية تجاه الملف السوري والسياقات المحلية والإقليمية للانفتاح التركي على نظام الأسد والدوافع الحقيقية لهذا الانفتاح التي خرجت عن هذا الاجتماع.
وفي السياق المحلي لهذا الاجتماع فإنه قد أتى في توقيت محلي يشهد توتراً في الداخل واعتصامات في مدينة إعزاز تطالب بإسقاط مؤسسات المعارضة، وترفض فتح معبر أبو الزندين مع نظام الأسد وتعتبر فتح المعبر خطوة نحو التطبيع مع النظام.
وفي السياق الإقليمي يأتي هذا الاجتماع مع خطوات متسارعة لتطبيع العلاقات بين حكومة نظام الأسد وتركيا حيث صرح رأس نظام الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 25 آب/ أغسطس المنصرم أن “الوضع الراهن المتأزم عالمياً وانعكاساته تدفعنا للعمل بشكل أسرع لإصلاح ما يمكن إصلاحه بعيداً عن آلام الجروح من صديق، وبهذا نتعامل مع تركيا”.
ومن الملاحظ أن رأس نظام الأسد أسقط شرط الانسحاب من الشمال السوري لبدء عقد الاجتماعات مع الجانب التركي وهي الكلمة التي قابلها الجانب التركي حيث وصف وزير الدفاع التركي، يشار غولر، تصريحات رأس نظام الأسد في “مجلس الشعب” بأنها إيجابية للغاية، وأشار إلى إمكانية اللقاء بين الرئيس التركي والأسد.
وبعدها وفي 30 من آب/ أغسطس المنصرم أعلن رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش ضمن مقابلة تلفزيونية عن استعداده للقاء رئيس ” مجلس الشعب” التابع لنظام الأسد إذا ما طُلب منه ذلك، كما نقلت صحيفة “الوطن”، التابعة لنظام الأسد، في 3 أيلول الجاري عن مصدر دبلوماسي تأكيده أن أجندة جدول الأعمال التي ستجمع الطرفين تتضمن:
وذلك في إشارة إلى تسمية من هم الإرهابيون، وتحديد آلية للتعاون بين أنقرة وحكومة نظام الأسد لمكافحة الإرهاب، وتحديد جدول زمني لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية وذلك بعد إنجاز النقاط السابقة الخاصة بمكافحة الإرهاب لضمان أمن الحدود المشتركة”.
بالإضافة إلى إعادة البحث في تعديل “اتفاقية أضنة” التي سبق أن جرى طرحها في صيغة جديدة للتعاون (النظام – والتركي) المشترك لضبط أمن الحدود، قد تكون أيضاً على جدول أعمال المباحثات المرتقبة نهاية الشهر الجاري، وبهذا نستدل أن كل هذه الأجندة تستهدف قوات سورية الديمقراطية “قسد” بشكل أساسي.
وعلى الصعيد الدولي: فإن الخطوات التركية المتلاحقة تجاه نظام الأسد تأتي في توقيت دولي وإقليمي معقد حيث بدأت الحرب على غزة تضع أوزارها، كما أن الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تأخذ منحى تصعيدياً مع خوف إقليمي من انتقال تداعياته إلى سورية وتوجه الدبلوماسية التركية لإعادة تموضعها في المنطقة على وجه يحفظ مصالحها الاقتصادية والأمنية.
وهناك توقعات تركية للانسحاب الأمريكي المحتمل من شرق الفرات ماسيحدث فراغاً جيواستراتيجياً لا ترغب تركيا وروسيا بأن يتم سده من قبل الميليشيات الإيرانية لذلك هي تحتاج إلى ترتيب شرعية تدخلها لسد الفراغ في هذه المنطقة مع النظام.
وكل هذه المؤشرات تدل على أن الوساطة العراقية والروسية أثمرت في تذليل العقبات أمام الجانبين وأن حدة الممانعة الإيرانية تجاه التطبيع لم تعد بتلك الحدة وهو ما أحدث تحولاً استراتيجياً لدى صانع القرار التركي تجاه الملف السوري والانضمام إلى قطار التطبيع الإقليمي.
ويظهر من ذلك أن التوجهات التركية المستقبلية تجاه الملف السوري هي النتيجة الطبيعة لمسار أستانا الذي تمت هيكلته نهاية عام 2016 بين كل من روسيا وتركيا على إثر خسارة المعارضة السورية لحلب ودخول تركيا إلى الشمال السوري بالتنسيق مع روسيا لمحاربة الإرهاب ومنع تمدد “قوات سورية الديمقراطية” من شرق الفرات إلى عفرين
وذلك ماكان يعني محاصرة تركيا على طول حدودها مع بناء مشروع انفصالي وعزلها عن المحيط العربي وهو ما دفع تركيا لإعادة حساباتها واعتبار النظام أخف ضرر من المشروع الانفصالي المدعوم غربياً، وهو ما دفعها لترتيب أولوياتها بعيداً عن مصالح المعارضة التي تعتبر نظام الأسد هو الخطر الأكبر
ويبدو أن رسم هيكلية المشهد الأمني والعسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشمال السوري من قبل الجانب التركي كان لتهيئة المنطقة لهذه اللحظة التي لم تكشف عنها أنقرة في حينها حتى لا تفقد سيطرتها على المعارضة، ويبدو أن المستقبل سيحمل الكثير من التوجهات التركية في إدارة الملف السوري في الشمال.
وإن تشريع الوجود العسكري التركي في الشمال السوري من خلال الاتفاق على تعديل اتفاقية أضنة مع نظام الأسد، فتح المعابر التجارية ومحاولة تشبيك المعارضة والنظام بمصالح تجارية واقتصادية تكون مقدمة لفتح مسارات من التعاون الإداري والأمني بين الطرفين تحت الرعاية الروسية والتركية.
وتعزيز حالة التنسيق هذه بين النظام والمعارضة تأتي لفرض حصار اقتصادي خانق ضد قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات ومنعها من الاستفادة من الحركة التجارية مع الشمال السوري والمعارضة، بالإضافة لإجراء تغييرات بنيوية داخل مؤسسات المعارضة الأمنية والعسكرية بحيث تصبح قادرة على ضبط الحالة الاجتماعية واحتواء أي حالة احتجاج مستقبلاً قد تنفجر ضد التوجهات التركية في الشمال.
ورغم تلاعب تركيا في هذه اللحظات من طرف داعم للمعارضة السورية إلى طرف وسيط يقود المبادرات والوساطات بين المعارضة والنظام لدفعهم نحو المزيد من خطوات التنسيق والتعاون، فإنه لا يعني انسحاب تركية من الشمال السوري لا على المدى القريب ولا البعيد رغم الانفتاح على النظام
ولنربط ذلك بتصريحات المسؤولين الأتراك الذين يربطون دائماً انسحابهم بجملة من الاشتراطات هي: تطهير سورية من العناصر الإرهابية؛ حفاظاً على سلامة أراضيها ووحدتها، تحقيق مصالحة وطنية حقيقية وشاملة، وإنجاز العملية السياسية ودستور جديد في إطار قرار مجلس الأمن الدولي 2254 على أساس المطالب والتوقعات المشروعة للشعب السوري، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة آمنة وكريمة للاجئين، وضمان استمرار وصول المساعدات دون انقطاع.
وهذه الاشتراطات المعلنة لتركيا أم الشروط التي لم تعلنها من الانفتاح على النظام هو تشريع وجودها العسكري في شمال غرب سورية من خلال صياغة تعديل جوهري على اتفاقية أضنة يسمح لتركيا بمد نشاطها العسكري حتى شمال شرق سوري.
وذلك بسبب رؤية صانع القرار التركي وتقديراته بأنه ثمة انسحاب أمريكي قريب من شرق الفرات في حال قدوم إدارة جديدة للبيت الأبيض وهو ما يعني رفع الحماية الأمريكية عن “قوات سورية الديمقراطية” والبدء بعملية تفكيكها ضمن استراتيجية متفق عليها بين النظام وتركيا وروسيا.
وهذا الهدف الاستراتيجي لا ينفي وجود بعض المصالح التي تحتاج تركيا لتحقيقها مع النظام كفتح مناطق سيطرة نظام الأسد أمام عملية الترحيل وإعادة اللاجئين السوريين والتعاون مع قوات الأسد لمحاصرة قوات سورية الديمقراطية، ودخول تركيا على خط التنافس على الطرق التجارية الدولية في سورية والسعي لفتح طريق M4 الذي يعتبر ذو أهمية اقتصادية استراتيجية بالنسبة لأنقرة والنظام.
والخلاصة من ذلك أنه ثمة ضغط روسي على النظام للانفتاح على تركيا التي تعتبر بالنسبة للنظام بوابة للانفتاح على الغرب فالنظام وروسيا يدركان أن تطبيع كل الدول العربية ليس له أية أهمية في عملية إنقاذ النظام بدون الانفتاح والتطبيع مع الغرب وهنا تبدو تركيا البوابة المناسبة لهذا التوجه
وبالمقابل فإن تركيا تقرأ المشهد في سورية وتقدر أن هناك انسحاب أمريكي قادم وريثما تصل تركيا إلى هذا الهدف الاستراتيجي فهي بحاجة لضبط مشهد المعارضة السورية والشمال السوري تحاشيا لأي حركات احتجاجية يمكن أن تؤدي إلى إضراب الاستقرار الأمني في الشمال السوري
ويبدو أن مؤسسات المعارضة ستكون الركيزة الأساسية لتنفيذ التوجهات التركية في المرحلة القادمة، ويبدو أن أنقرة تحاول ربط مصالح المعارضة الاقتصادية بهذا المسار لكي تضمن موقفها وتأييدها للخطوات التي تقوم، بالإضافة إلى أن التوجه التركي الاستراتيجي في الملف السوري يتسق مع إعادة التموضع التركي
ويهتم بتعريف دوره كطرف وسيط ومحايد من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية بالكسب السياسي من كل الأطراف المتصارعة وعدم أخذ مواقف جادة تجاه أي طرف مع التركيز على أولوية الخطر الأمني القادم مع وجود قوات سورية الديمقراطية على حدودها محمية من دولة عظمى