أبحاثالدراسات والبحوث

مالي بعد حل الأحزاب: نحو جمهورية عسكرية بلا حياة سياسية

المقدمة:

منذ العام 2020، تعيش جمهورية مالي في دوامة من التحولات الجذرية التي طالت البنية السياسية، والدستورية، والمدنية للدولة، بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية التي حملت نخباً أمنية إلى السلطة. هذه التحولات لم تقتصر على إعادة تشكيل السلطة، بل تجاوزت ذلك إلى تفكيك النظام السياسي التقليدي القائم على التعددية الحزبية، واستبداله بنموذج مركزي ذي طابع عسكري–إداري، يهمّش دور الأحزاب، ويُخضع الحياة السياسية لمعايير أمنية صارمة. في هذا السياق، لم تعد الأحزاب السياسية أدوات فاعلة في التمثيل أو الوساطة، بل تحوّلت في خطاب السلطة الجديدة إلى “تهديدات محتملة” يجب احتواؤها أو تحييدها، ضمن منطق مركّز على إعادة تشكيل الدولة من بوابة “إعادة التأسيس”.


الخلفية:

بدأت الأزمة السياسية في مالي بالتصاعد مع انقلاب أغسطس/آب 2020 الذي أطاح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، على وقع احتجاجات شعبية قادتها حركة “5 يونيو” وتحالفات معارضة واسعة. تزامن ذلك مع تدهور أمني متفاقم، خاصة في المناطق الوسطى والشمالية من البلاد، حيث تنشط جماعات جهادية على صلة بتنظيمي “القاعدة” و”داعش”. أعقب هذا الانقلاب تشكيل “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب” بقيادة العقيد أسيمي غويتا، الذي سرعان ما أحكم قبضته على مفاصل الحكم عبر انقلاب ثانٍ في مايو/أيار 2021.

في ظل هذا السياق، بدأت السلطة العسكرية باتباع نهج تدريجي لتفكيك البنية السياسية القائمة. فُرضت قيود مشددة على عمل الأحزاب، وأُقرّ ميثاق انتقالي يحد من المشاركة السياسية، كما سُحب الاعتراف القانوني بعدد من التشكيلات الحزبية. وتوّجت هذه الإجراءات بقرار رسمي في أبريل/نيسان 2024 بحل كافة الأحزاب السياسية، بحجة تهديدها للوحدة الوطنية وزعزعتها للنظام العام.


التحليل:

يمثل قرار حل الأحزاب السياسية في مالي تتويجاً لمسار طويل من عسكرة السلطة وإعادة هندسة الحقل السياسي. وتبدو مبررات السلطات الانتقالية مركّزة على ثلاث نقاط مركزية:

  1. اعتبار الأحزاب أدوات لإثارة الفوضى: جرى تصوير الأحزاب في الخطاب الرسمي ككيانات انتهازية، تفتقد للشرعية الشعبية، ولا تعكس مصالح “الشعب المالي الحقيقي”، وتعمل فقط على تعميق الانقسام الداخلي.

  2. ترسيخ “الرؤية الوطنية الجديدة”: روّجت السلطات لفكرة “إعادة تأسيس الدولة”، من خلال ميثاق انتقالي يحصر القرار السياسي في هياكل استشارية مقيّدة، ويفرض رقابة شديدة على التعبير والتنظيم، في ظل سردية تتحدث عن “وحدة المصير” و”مقاومة التدخلات الخارجية”.

  3. تحييد البيئة الديمقراطية تحت غطاء الأمن: توازيًا مع الحل الشامل للأحزاب، تم توسيع دور الأجهزة العسكرية والأمنية في إدارة الشأن العام، وجرى قمع أي تكتل مدني مستقل، خصوصًا منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالتمويل الغربي أو الخطاب الحقوقي.

السلطة العسكرية لا تسعى إلى العودة للديمقراطية التعددية، بل إلى تكريس نموذج سلطوي هجين، يجمع بين الشرعية الثورية والانضباط العسكري، ويحتكر القرار الوطني داخل دائرة ضيقة من الضباط والنخب الأمنية، بحجة حماية السيادة ومواجهة التهديدات.

في المقابل، تم إضعاف جميع قنوات الوساطة التقليدية، سواء عبر النقابات، أو الجمعيات، أو الزعامات الدينية، أو حتى القوى القبلية التي كانت تؤدي دورًا في الحفاظ على التوازن الاجتماعي. وبهذا، دخلت البلاد في حالة انغلاق سياسي، تُدار فيها المرحلة الانتقالية بطريقة مفتوحة، دون جدول زمني واضح أو أفق لانتخابات حقيقية.


الخلاصة:

مالي تسير في مسار استثنائي يقوم على عسكرة النظام السياسي وإلغاء كل ما يرتبط بالحياة الحزبية. ما يجري ليس فقط انتقالًا سلطويًا، بل هو عملية إعادة صياغة شاملة للهوية السياسية للدولة. وقد أدّى هذا التحول إلى إخضاع الحياة المدنية بالكامل لمنطق القوة العسكرية، وتجريد المجتمع من أدوات التمثيل السياسي والرقابة الشعبية، ما يجعل المستقبل السياسي لمالي محكومًا بعوامل أمنية بحتة، لا تراعي التوازنات المدنية أو مبدأ التعددية.

هذا الوضع يضع البلاد أمام مفترق حاد بين خيارين: إما تكريس نموذج سلطوي مغلق قد يؤدي إلى انفجارات داخلية مستقبلية، أو إعادة دمج القوى السياسية والمدنية ضمن مشروع وطني جامع يُعيد الحياة الديمقراطية التدريجية إلى البلاد. غير أن المؤشرات الحالية لا توحي بانفتاح قريب، بل تشير إلى مزيد من الانغلاق وإعادة إنتاج السلطوية بمسوغات أمنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى