الرؤية الكردية في شمال شرق سوريا: بين تثبيت الذات وتفكيك التعاقد الوطني

دمشق – مركز مسارات للتفكير الاستراتيجي
مدخل:
انعقد مؤخراً مؤتمر سياسي كردي تحت عنوان “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في روجآفايي كردستان”، في سياق التطورات المتسارعة على الساحة السورية، وأصدر وثيقة حملت عنوان “الرؤية الكردية المشتركة”، التي وضعت تصورًا جديدًا لطبيعة العلاقة بين الكرد والدولة السورية.
تشكل هذه الوثيقة محطة مهمة تعكس تطور الخطاب السياسي الكردي من المطالب الحقوقية إلى تصور سياسي شبه متكامل لكيان يتمتع بخصائص فيدرالية موسعة.
أولا: مضمون الرؤية الكردية
تركز الوثيقة على مجموعة من المحاور الجوهرية:
-
إعادة ترسيم الحدود الإدارية لمناطق شمال سوريا وفق معايير قومية كردية.
-
الاعتراف الرسمي باللغة الكردية كلغة ثانية إلى جانب العربية.
-
منح الإدارة الذاتية الكردية حكماً ذاتياً موسعاً ضمن نظام اتحادي.
-
تمكين الكرد من إدارة واستثمار الثروات الطبيعية ضمن مناطقهم.
-
ضمان تمثيل سياسي خاص بالكرد في مؤسسات الدولة المركزية.
-
تبني تسميات كردية للمناطق الجغرافية، متجاوزةً التسمية الرسمية السورية.
تظهر هذه المطالب كمحاولة منهجية لإعادة هندسة الخريطة الإدارية والثقافية في الشمال الشرقي السوري، بما يكرس هوية كردية متميزة ومستقلة نسبياً عن السياق الوطني السوري التقليدي.
ثانياً: قراءة في السياق السياسي
تصدر هذه الرؤية في مرحلة تتسم بعدة معطيات مؤثرة:
-
الفراغ السيادي الذي يعيشه الشمال الشرقي السوري نتيجة الحرب وفقدان السلطة المركزية لسيطرتها الكاملة.
-
الدعم الدولي غير المباشر الذي تحظى به الإدارة الذاتية، لا سيما من الولايات المتحدة الأمريكية، مما يشجع النخب الكردية على طرح مشاريع سياسية أكثر طموحاً.
-
التحولات الإقليمية الجارية، بما فيها التقارب التركي-العربي والتموضع الروسي الأمريكي في سوريا، مما يدفع الأطراف الكردية لمحاولة تثبيت أمر واقع قبل تسوية دولية شاملة.
الرؤية الكردية تعكس بذلك استشعارًا كرديًا بأن “لحظة مناسبة” قد تكون متاحة لتحقيق مكاسب استراتيجية على الأرض، مستفيدين من حالة السيولة الإقليمية والضعف الداخلي السوري.
ثالثاً: أبعاد الرؤية الكردية وأثرها المحتمل
-
البعد القومي:
الرؤية تتبنى مقاربة قومية واضحة، تسعى لتعزيز الهوية الكردية مقابل الهوية الوطنية السورية العامة، مما ينذر بتحولات جذرية في البنية الوطنية السورية لو تم تبنيها أو فرضها. -
البعد الجغرافي-الديموغرافي:
تتجاهل الوثيقة تعقيدات الواقع السكاني في مناطق شمال شرق سوريا، الذي يتميز بتداخل بين العرب والكرد والسريان والآشوريين، مما يهدد بإثارة نزاعات ديموغرافية مستقبلية. -
البعد الاقتصادي:
بالتركيز على السيطرة على الموارد الطبيعية، تسعى الرؤية الكردية إلى ضمان استقلال مالي واقتصادي، وهو ما يشكل دعامة أساسية لأي مشروع انفصالي محتمل مستقبلاً. -
البعد القانوني والسيادي:
طرح نظام فيدرالي على أسس قومية يضعف مبدأ الدولة الموحدة، ويفتح الباب أمام مطالب مماثلة لمكونات أخرى، مما يقوض مفهوم السيادة السورية المتكاملة.
رابعاً: الإشكاليات الكبرى في الرؤية
-
ازدواجية الخطاب:
بينما ترفع الرؤية شعارات “الوحدة الوطنية”، إلا أن مضامينها تحمل سمات انفصالية واضحة تهدد تماسك الدولة. -
الاستناد إلى سرديات متنازع عليها:
تبني الرواية الكردية حول “الحقوق التاريخية” يتجاهل الطبيعة التاريخية المركبة لمنطقة الجزيرة السورية. -
التجاهل للبيئة الإقليمية:
لا تأخذ الرؤية بعين الاعتبار معارضة القوى الإقليمية الكبرى، خصوصاً تركيا، لأي كيان كردي شبه مستقل قرب حدودها. -
تعقيد مسار التسوية السياسية:
فرض أمر واقع كردي سيزيد من صعوبة الوصول إلى تسوية سياسية سورية شاملة، وسيضاعف الانقسامات المجتمعية.
خامساً: السياق الإقليمي والدولي
تتزامن الوثيقة مع عدة تحولات ذات صلة:
-
تصاعد التوترات بين أنقرة والقوى الكردية في سوريا والعراق.
-
انخراط روسيا وأمريكا في تنافس خفي على مستقبل الشمال السوري.
-
إعادة ترتيب التحالفات العربية-التركية-الإيرانية، مما قد يعيد رسم أولويات الملف السوري إقليمياً.
كل هذه العوامل تجعل مشروع الرؤية الكردية أكثر هشاشة وعرضة لردود فعل قاسية، إقليمياً ودولياً.
خاتمة تحليلية:
تعبّر “الرؤية الكردية المشتركة” عن محاولة منهجية لإعادة تعريف هوية شمال شرق سوريا على أسس قومية كردية، بما يتجاوز الإطار الوطني التقليدي، وتؤسس لصيغة حكم ذاتي موسع قد تتطور لاحقاً إلى مشاريع انفصالية.
في المقابل، يظهر أن الوثيقة تغفل التعقيدات البنيوية للمجتمع السوري، والتوازنات الإقليمية والدولية، مما يجعلها مشروعاً طموحاً لكنه محفوف بمخاطر التفكك والنزاع، إذا لم يتم التعامل معه ضمن إطار وطني شامل، يوازن بين الحقوق الثقافية ووحدة الدولة.