قراءة في مساعي بكين لتعزيز حضورها في دول الساحل

• حسين لنصاري
شهدت دول منطقة الساحل الإفريقي (مالي، بوركينا فاسو، والنيجر) تحولاً جيوسياسياً ملحوظاً منذ عام 2020، تمثل بسلسلة من التغيرات في موازين التحالفات الدولية.
وفي هذا السياق، برزت الصين كلاعب أساسي يسعى لتعميق شراكاته في المنطقة، مستفيدةً من التغيرات السياسية والعسكرية الأخيرة، وعلى عكس النهج الغربي، لم تربط بكين تعاونها بشكل صارم بطبيعة الأنظمة الحاكمة، مما أتاح لها مساحة أكبر للمناورة والدبلوماسية الاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، بعد الانقلابات الأخيرة، واصلت الصين برامج التعاون التنموي والاستثماري مع هذه الدول، ففي بوركينا فاسو، لم تتوقف المشاريع الصينية رغم التغيرات السياسية، بل استمرت شركات صينية في العمل في قطاعات البنية التحتية والاتصالات. كما وقّعت بكين اتفاقيات جديدة مع النيجر لاستخراج اليورانيوم، وهو مورد استراتيجي مهم، في وقت سعت فيه لدعم قطاعات الطاقة والنقل في البلاد.
كما عززت الصين وجودها الأمني في المنطقة بشكل غير مباشر، من خلال دعم تدريب القوات المحلية وتوفير معدات قتالية، في إطار مكافحة الجماعات الجهادية (الإرهابية) الذي يهدد مصالحها الاقتصادية المتنامية.
أما في مالي، واصلت الشركات الصينية العمل في مشاريع كبيرة رغم الاضطرابات الأمنية، بدعم من حماية القوات المحلية التي تلقت دعماً صينياً سواء بمعدات عسكرية أو معدات غير قتالية، وواجهت بذلك استهدافا لها من قبل الجماعات الجهادية التي تتهمها بمساندة القوات الحكومية.
لكن مؤخرًا، أظهرت دول الساحل رغبة في تنويع شراكاتها الدولية، وهو ما فتح الباب أمام بكين لتقديم نفسها كشريك بديل أو مكمل للقوى التقليدية، وفي هذا الإطار، زارت وفود صينية رفيعة المستوى تلك العواصم، وشملت الزيارات مسؤولين كباراً من وزارة الخارجية الصينية ووزارة التجارة، بالإضافة إلى ممثلين عن الشركات الصينية الكبرى العاملة في قطاعات التعدين والبنية التحتية.
كما اجتمعت هذه الوفود بمسؤولين محليين رفيعي المستوى، وناقشت سبل تعزيز التعاون في مجالات الأمن والاقتصاد والتنمية، وركز الجانب الصيني في مشاوراته على الجوانب العملية للتعاون، مبرزاً مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” وسعيه لتحقيق “منفعة متبادلة”.
وشددت بكين على أن مصلحتها المشتركة مع دول المنطقة تكمن في تحقيق الاستقرار والتنمية، وهو ما يخدم أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية.
بالتزامن، قام كبار مسؤولي الخارجية الصينية بجولات في المنطقة، ركزوا خلالها على مشاريع البنية التحتية والطاقة، مع إشارات واضحة لاستعداد الصين لزيادة استثماراتها في قطاعات التعدين والطاقة المتجددة، كما ناقشوا سبل تعزيز التعاون الأمني وتبادل المعلومات لمكافحة الجماعات الجهادية (الإرهابية) التي تهدد المشاريع الاقتصادية المحلية و الصينية في المنطقة.
دوافع التعزيز الصيني للوجود…
هناك عدة اعتبارات وراء تعزيز الصين لوجودها في الساحل، من بينها:
أولاً، تشكل التنظيمات الجهادية تهديداً مباشراً للمصالح الصينية المتنامية في المنطقة، خاصة في قطاعات التعدين والطاقة، فعدم الاستقرار الأمني يعرقل تنفيذ المشاريع الكبرى التي تعمل بها الشركات الصينية، ويهدد أمن موظفيها، لاسيما بعد احراق معدات شركاتها وخطف رعاياها وعمالها، لذلك ترى بكين أن دعم استقرار هذه الدول يصب في مصلحتها مباشرة.
ثانياً، ثمة اهتمام صيني متزايد بالموارد الطبيعية في المنطقة، التي تعتبر مصدراً مهماً للمواد الخام الاستراتيجية لاقتصاد الصين الضخم، فمالي وبوركينا فاسو و النيجر وغيرهما من دول المنطقة تزخر باحتياطيات مهمة من الذهب واليورانيوم والليثيوم والبوكسيت، وهي معادن أساسية للصناعات التكنولوجية والعسكرية الصينية.
لكن بكين تحرص على عدم تقديم نفسها كقوة استعمارية جديدة، وتؤكد على أن شراكاتها تقوم على أساس المنفعة المتبادلة واحترام السيادة الوطنية.
وقد حذر دبلوماسيون صينيون من أن “أي تعاون يجب أن يخدم مصالح الطرفين ويحترم خيارات الشعوب”، في إشارة إلى انتقادات موجهة للقوى الغربية على رأسها فرنسا التي لطالما تم انتقادها بسبب سياساتها التي توصف محليا بالاستعمارية.
المنافسة الدولية وتوازن القوى…
يأتي الاهتمام الصيني المتزايد بالمنطقة في وقت تشهد فيه تنافساً دولياً محموماً على النفوذ فيها، فبعد تراجع الوجود الفرنسي والأمريكي في بعض دول الساحل، برزت روسيا كلاعب عسكري مهم، لكن الصين ركزت على الجانب الاقتصادي والتنموي بشكل أساسي.
وبحسب مراقبين، فإن حكومات المنطقة تنظر إلى الصين كشريك اقتصادي مهم يمكنه تقديم بدائل للاستثمار والتمويل دون شروط سياسية صارمة، كما أن النموذج الصيني في التنمية يلقى اهتماماً متزايداً لدى النخب المحلية، الأمر الذي يزعج بالفعل الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا.
آفاق التعاون كما تريدها بكين…
· الاقتصاد والتنمية: تواصل الصين تعزيز استثماراتها في البنية التحتية والطاقة والتعدين، مع تركيز على مشاريع الطرق والموانئ التي تخدم شبكة التجارة الدولية الصينية في دول المنطقة الساحلية وغير الساحلية.
· الأمن ومكافحة الإرهاب: تطور بكين تعاونها الأمني مع دول المنطقة من خلال توفير التدريب والمعدات القتالية وغير العسكرية وتبادل المعلومات الاستخبارية.
· التعاون التنموي: تقدم الصين منحاً و قروضاً ميسرة لمشاريع التنمية، مع التركيز على تلك التي تخدم مصالحها الاقتصادية وتُظهرها كشريك تنموي فعّال.
في الختام، تبدو فرص تعزيز الوجود الصيني في الساحل واعدة، خاصة مع تركيز بكين على الجوانب الاقتصادية والتنموية التي تلقى ترحيباً من حكومات المنطقة، و يزيد التنافس الدولي من حماس الصينين لتعزيز نفوذهم، لكن النتيجة تعتمد على قدرة بكين على تقديم نفسها كشريك موثوق وقادر على تحقيق المنفعة المتبادلة دون شروط سياسية مسبقة وبدون تواجد عسكري على الأرض. والسؤال الآن، هل ستتمكن من ذلك في ظل عجز حكومات الساحل عن حماية مصالحها؟