الدراسات والبحوث

أثر العقوبات على ديناميكيات القوى في سوريا

بعد مرور حوالي عقد من الزمن، لم تستطع العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على سوريا من المساهمة في إحداث تغيير سياسي حقيقي أو وضع حد للنزاع القائم في البلاد. في واقع الأمر، فقد استطاع النظام في سوريا ولغاية الآن أن يتأقلم مع هذه العقوبات ويُحيل معظم آثارها السلبية لتُصيب الغالبية العظمى من السوريين في الوقت الذي يغتني فيه المحاسيب وتجار الحرب. وتُظهر نتائج الدراسة أن العقوبات ساهمت إلى حد ما في إضعاف تأثير الدول الغربية وزيادة تغول الدور الروسي والإيراني وتحكمهم في العديد من مفاصل مؤسسات الدولة السورية. إلا أن هذه العقوبات، ومن جهة أخرى، ضرورية لمحاسبة الأشخاص والمؤسسات المساهمة بقمع وإقصاء المدنيين في سوريا، كما أنها تحد من القدرة المالية للنظام وتضعفه اقتصادياً، الأمر الذي قد يجبره لاحقاً, وفقاً لفارضي هذه العقوبات, إلى تغيير بنيته و/أو سلوكه.

إن فهم أثر العقوبات موضوع معقد يتطلب تحليل معمق يأخذ بعين الاعتبار
1) عدم اختزال تحليل أثر العقوبات إلى ثنائية جيدة أو سيئة وبالتالي تجديدها أو رفعها
2) الخروج من التحليل التعميمي الواحد للعقوبات والاعتماد على تحليل تفصيلي لتأثير العقوبات على كل فاعل من الفاعلين المختلفين في سوريا بما في ذلك الذين لا تستهدفهم العقوبات
3) اختلاف طبيعة العقوبات المفروضة وأهدافها خلال السنوات العشر من الأزمة السورية.

وفي هذا السياق، يمكن تعيين ثلاث مراحل رئيسية مرت بها العقوبات في سوريا منذ نيسان 2011 ولغاية منتصف عام 2020 وذلك وفق الهدف من هذه العقوبات وطبيعة الفاعلين المستهدفين. كما يمكن تقسيم الفاعلين إلى عشر فئات رئيسية تؤثر في بعضها البعض وتقع ضمن مجموعتين رئيسيتين. تضم المجموعة الأولى الفاعلين الذين استهدفتهم العقوبات بشكل مباشر وهم الجهات الأمنية والعسكرية، مؤسسات ومسؤولين حكوميين، قطاع الطاقة، قطاع المصارف، تجار الحرب ومحاسيب النظام، مؤسسات وأصحاب أعمال دوليين على علاقة مع الحكومة السورية. وتضم المجموعة الثانية فاعلين تأثروا بالعقوبات دون استهدافهم بشكل مباشر وهم المؤسسات الحكومية غير المعاقبة، قطاع الأعمال التقليدي، المجتمع المدني ومؤسساته، إضافة إلى فئة المواطنين العاديين.

بدأت المرحلة الأولى في أواخر نيسان 2011 مع مجموعة من العقوبات على عدد محدد من النافذين، وانتهت في آب 2011 عندما بدأت العقوبات تستهدف المقومات الأساسية للاقتصاد السوري. كان الهدف المعلن للعقوبات التي فُرضت خلال هذه المرحلة والتي استمرت أربعة أشهر هو تغيير سلوك النظام، حيث استهدفت بشكل مباشر عددًا قليلاً فقط من الأفراد والكيانات في ثلاث فئات من الفاعلين وهي تجار الحرب ومحاسيب النظام، الجهات الأمنية والعسكرية، إضافة إلى مسؤولين رئيسيين في الحكومة. وكان لهذه العقوبات أثر سلبي لكنه محدود على هذه الفئات، كما كان لها أثر سلبي غير مباشر على فئات قطاع الأعمال التقليدي، والجهات الحكومية غير الخاضعة للعقوبات، والمواطنين العاديين، حيث استشعرت هذه الفئات أن استهداف النافذين ماهو إلا مقدمة لتصعيد الأزمة على كافة المستويات.

أما المرحلة الثانية فقد بدأت في آب 2011 وانتهت في أيار 2014 عندما وسعت الولايات المتحدة نطاق عقوباتها لتشمل لاعبين دوليين يعملون مع الحكومة السورية بما في ذلك البنوك والمؤسسات المالية. وكان الهدف الرئيسي المعلن لعقوبات تلك المرحلة هو تغيير النظام السوري من خلال تدمير أسسه وموارده الاقتصادية، حيث استهدفت العقوبات خلال هذه المرحلة عددًا أكبر من الأفراد والكيانات في نفس الفئات الثلاث من الفاعلين المتأثرين بشكل مباشر في المرحلة السابقة بالإضافة إلى مؤسسات في قطاعي الطاقة والمصارف. وقد اختلف تأثير العقوبات خلال هذه المرحلة بين الفاعلين، فقد كان سلبياً للغاية على القطاع المصرفي وقطاع الطاقة والمؤسسات الحكومية، ومحدوداً على الجهات الأمنية والعسكرية. إلا أن فئة تجار الحرب والمحاسيب استطاعوا التأقلم وبدأوا في الاستفادة من العقوبات من خلال الاستثمار في طرق التهريب والتعاون مع شبكات الأعمال الدولية. ومن جهة أخرى، فقد ساهمت عقوبات هذه المرحلة في تعميق معاناة غلبية السوريين وقطاع الأعمال التقليدي إضافة إلى الجهات الحكومية غير الخاضعة للعقوبات.

كما شهدت هذه المرحلة تغيرات جذرية في العلاقات الاقتصادية للحكومة السورية مع الفاعلين الخارجيين، حيث انعدمت العلاقة تقريبًا مع الشركاء التجاريين التقليديين بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والدول العربية، في حين أنها أصبحت تعتمد بشكل شبه كلي على روسيا وإيران وبدرجة أقل على الصين والهند. وقد استغل حلفاء الحكومة السورية اعتمادها الكلي عليهم من خلال فرض شروطهم التجارية والاستثمارية في سوريا والتي تخدم مصالح محاسيبهم وشبكات الأعمال المرتبطة بهم على حساب مصالح السوريين.

أما المرحلة الثالثة فمازالت مستمرة منذ أيار 2014 عندما استهدفت الولايات المتحدة بعقوباتها على سوريا المؤسسات المالية في روسيا. ويبدو أن عقوبات هذه المرحلة تسعى إلى زيادة القدرة التفاوضية للدول الغربية مع حلفاء النظام لتغيير سلوكه ولكي يكون لهم نفوذ أكبر في سوريا. وتستمر العقوبات في التأثير على فئات الفاعلين بالطريقة نفسها التي أثرت بها في المرحلة السابقة. أما التغييرات الرئيسية التي حدثت خلال هذه المرحلة فتشمل محاولة الولايات المتحدة الأمريكية الحد من أنشطة شبكات الأعمال الدولية المرتبطة بأنشطة مع الحكومة السورية، باستخدام تدابير عقابية مثل قانون قيصر. كما شهدت المرحلة الثالثة استفادة متزايدة من العقوبات لصالح تجار الحرب والمحاسيب مع زيادة استثماراتهم في الانشطة الريعي، ويأتي ذلك ضمن استراتيجة النظام للتأقلم مع العقوبات وتخفيف أثرها وخاصة على المؤسسات المرتبطة به.

بشكل عام، يمكن القول أن العقوبات نجحت في تقليص الموارد المالية للنظام وتقليل مرونته في إجراء المعاملات التجارية والنقدية الخارجية. إلا أنه، وبدلاً من تغيير سلوكه، بحث النظام عن موارد وقنوات جديدة وأعاد توزيع الموارد المتاحة من غالبية السوريين لصالح المقربين منه، حيث زادت الحكومة السورية الضرائب على المواطنين في الوقت الذي تشعبت فيه شبكة من أمراء الحرب والمحاسيب تستغل الموارد وتتحصل على عائدات ضخمة من الأنشطة غير المشروعة بما فيها التعاون مع شبكات مالية دولية غير قانونية وتأسيس شركات وهمية خارج سوريا للالتفاف على العقوبات بالتعاون مع المسؤولين والنافذين في الحكومة السورية. من جهة أخرى، فإن العقوبات الاقتصادية ساهمت وتساهم في شل جزء مهم من الاقتصاد الرسمي وإلحاق الضرر بقطاع الأعمال التقليدي والأنشطة الاقتصادية بما في ذلك التجارة والأعمال المالية والمصرفية، الأمر الذي زاد من الشح الشديد في العملات الأجنبية وانهيار قيمة العملة السورية وبالتالي ازدهار السوق السوداء وارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات قياسية. وتجدر الإشارة إلى أن قطاع الأعمال التقليدي الذي يتضمن قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة والذي يعتبر أكثر استقلالاً عن السلطة، كان من الفاعلين الأكثر تضرراً بالعقوبات التي أثرت بشكل كبير على تعاملاتهم مع السوق الخارجي وأضعفت من القدرة الشرائية لسوقهم الداخلي. كما دفعت العقوبات هذا القطاع إلى الاعتماد أكثر على السوق السوداء في الحصول على المواد الأولية والسلع المستوردة وبالتالي الاعتماد أكثر على محاسيب النظام الذين يسيطرون على جزء كبير من هذه السوق.

لعبت العقوبات دوراً في تغيير ديناميكيات القوى في سوريا بشكل غير خطي، أي أنه لا يمكن لرفع جميع هذه العقوبات مثلاً أن يعكس ببساطة آثارها غير المرغوبة وإعادة الاقتصاد السوري إلى عام 2011، حيث أن بنى وديناميكيات القوى الحالية أكثر قدرة على تحويل الموارد المالية والاقتصادية للبلاد من خدمة المواطنين العاديين لصالح تجار الحرب ومحاسيب النظام من قبل. وبالتالي فإن إتاحة الموارد السخية ضمن الديناميكيات الحالية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الفساد وتعزيز احتكار النخب الفاسدة والإجرامية للسوق الداخلية، أي أن سوريا وقعت في فخ العقوبات بمعنى أن خياري رفعها بالكامل أو الإبقاء عليها كما هي سيخدمان مصالح فئة قليلة من الفاسدين والمقربين من النظام على حساب غالبية السوريين. وحيث أن الهدف المعلن للعقوبات هو ردع المسؤولين عن قمع الناس العاديين في سوريا وفضحهم وإقصائهم، وفي ظل التقدم البطيء باتجاه هذا الهدف، فإن نتائج الدراسة تشير إلى ضرورة إعادة النظر في طبيعة العقوبات وآليات تطبيقها كي لا يستمر استغلالها من قبل المسؤولين المعاقبين أنفسهم لتحقيق أرباح طائلة، وكي لا تساهم أكثر في تفاقم المأساة الإنسانية التي يعيشها الغالبية العظمى من السوريين. كما تدل النتائج على صعوبة تطبيق مقاربة واحدة لكل العقوبات، ففي حين أنه يتوجب رفع ما يتسبب منها بتعميق المأساة الإنسانية فإن بعضها الآخر يتطلب التعديل مع إمكانية تفعيل الاستثناء الإنساني لتخفيف الآثار السلبية على معيشة السوريين اليومية. إلا أن أي مراجعة من قبل المجتمع الدولي للعقوبات المفروضة على سوريا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تأثير هذه العقوبات على ديناميكيات القوى داخل سوريا وعلى سلوك الداعمين الدوليين لهذه القوى، كما يجب أن تأتي هذه المراجعة ضمن إطار تحقيق استراتيجية واضحة تهدف إلى تغيير هيكلية القوى الحالية في سوريا بما يتيح مساحة أكبر للمواطنين والمجتمع المدني وقطاع الأعمال التقليدي للمساهمة في بناء مؤسسات واقتصاد تضميني قادر على مواجهة وتجاوز اقتصاديات النزاع المُتحكم بها من قبل محاسيب النظام وأمراء الحرب. وتتطلب مراجعة العقوبات التفكير في آليات تخفف من الآثار السلبية لبعض هذه العقوبات على المواطنين العاديين، ومن هذه الآليات مثلاً تقديم دعم مباشر لقطاع الأعمال التقليدي وإيصال المساعدات من خلال قنوات مالية موازية بديلة ومستقلة عن القنوات الرسمية التي يسيطر عليها النظام ومحاسيبه إضافة إلى إيجاد منظومة رصد وتقييم فعالة للتأكد أن هذه القنوات البديلة أو أي آلية أخرى تخدم بشكل رئيسي المستهدفين منها وفقاً لاحتياجاتهم، ولا يتم حرفها لصالح النظام أو قوى الأمر الواقع التي تمارس القمع والاستبداد على السوريين في كافة المناطق. إن إعادة النظر في بعض العقوبات وآليات تطبيقها بناء على الدراسات والأدلة ذات الصلة يساعد في تحويل هذه المساعدات والعقوبات من أداة تستغلها وتستفيد منها قوى الأمر الواقع في سوريا إلى وسيلة تساعد السوريين على تغيير الخارطة الحالية للقوى باتجاه بناء مؤسسات دولة فعالة وتضمينية
وتحترم سيادة القانون.

المصدر: مدونة الباحثة ريم تركماني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: