بين أخذ وجذب… لماذا لا تطلق واشنطن يد إسرائيل في رفح؟
شهدت الأيام والأسابيع القليلة الماضية تصريحات كثيرة لمسؤولين إسرائيليين تتعلق بضرورة اقتحام محافظة رفح جنوب قطاع غزة والقضاء على كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس وكذلك باقي فصائل المقاومة الفلسطينية التي تقاتل معها، ولاشك أنّ التصريحات الأكثر تطرفًا جاءت من قبل زعيم اليمين المتطرف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية الإسرائيلي سموتريتش، واللذان يبدو لهما التأثير الأكبر على قرارات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومع هذه التصريحات المستمرة والتحركات الأخيرة في شرق رفح وسيطرة جيش الاحتلال على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، خرجت التصريحات الأمريكية لتعبر عن رفض الولايات المتحدة، وخصوصًا إدارة بايدن، لعملية واسعة النطاق في رفح وتلا ذلك إيقاف واشنطن لشحنة أسلحة كانت متجهة نحو إسرائيل، لكن جاء ذلك بالتوازي مع التصريحات التي تؤكد حرص الولايات المتحدة على أمن إسرائيل، فلماذا لا توافق أمريكا رغبة إسرائيل في نيتها اقتحام رفح.
لا شكّ أنّ واشنطن التي أيدت إسرائيل منذ بدء عمليتها بالأسلحة والذخائر والزخم الإعلامي لاتعطي قيمة كبيرة لعدد القتلى والجرحى الذين يسقطون جراء الغارات الإسرائيلية التي لاتزال تمطر قطاع غزة منذ أكثر من 200 يوم دون هوادة، لكنّ تداعيات الحرب المستمرة التي وصل صداها إلى العمق الداخلي للولايات المتحدة وخصوصًا الجامعات الأمريكية والتي بدأ طلابها بالخروج بالمئات وربما بالآلاف للمطالبة بوقف الحرب على غزة وضرورة وقف دعم إسرائيل التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية هناك، وما صاحب ذلك من مواجهات بين الشرطة والطلبة وبين المؤيدين لليهود والمعارضين للحرب، وتصاعد خوف واشنطن من توسع تلك المظاهرات لتصل إلى باقي الجامعات خصوصًا بعد القمع الوحشي من قبل الشرطة لبعض الاعتصامات والمظاهرات داخل الجامعات، في سابقة لم تعهد من قبل في بلد يدّعي حقوق التظاهر وحرية التعبير، ففي 18 نيسان/ أبريل، قامت شرطة نيويورك بإخلاء مخيم في جامعة كولومبيا، واعتقلت ما يقارب 100 طالب، وكذلك اقتحم مئات من عناصر الشرطة الأمريكية، جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، مجهزين بمعدات لمكافحة الشغب، وفضوا بالقوة اعتصامًا داخلها، كما فككوا مخيم المعتصمين واعتقلوا ما لا يقل عن 200 شخصًا، مستخدمين قنابل الغاز والقنابل الصوتية، كل تلك الحوادث وغيرها تعتبر غير مسبوقة، ولذلك تخشى الولايات المتحدة من أنّ استمرار الحرب في غزة وخصوصًا نية إسرائيل اقتحام رفح الذي سيطيل مدة المواجهات والاقتتالات قد ينذر بتوسع رقعة المظاهرات لتشمل جميع الجامعات بل ربما تخرج لكل الساحات الأمريكية وتسبب فوضى عارمة وانقسامًا حادًا في الرأي العام للأمريكيين يتبعه مواجهات عنيفة وإضرابات واسعة لاتستطيع الدولة إيقافها أو التنبؤ بمآلاتها ومخاطرها.
الأمر الآخر الذي يشغل إدارة بايدن هو جولة الانتخابات الرئاسية القادمة بعد حوالي خمسة أشهر التي تعتبر مفصلية للحزب الديمقراطي في هذه المرحلة خصوصًا أنّ الحملة الانتخابية تتطلب الكثير من الهدوء الداخلي لترويجها بالشكل الصحيح وذلك مع اشتداد المنافسة مع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يتحين الفرص للتقليل من شأن بايدن ووصفه بالشخص الضعيف الذي لم يستطع إدارة البلاد داخليًا وخارجيًا. وفقًا لاستطلاعات الرأي فمن المتدتوقع أن يحجم بعض الديمقراطيين، خاصة الشباب منهم، عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، والتصويت لبايدن في كانون الأول/ ديسمبر، بسبب دور أمريكا في حرب غزة. لذلك كله تريد إدارة بايدن إيقاف الحرب في غزة في أسرع وقت ومنع وصول تأثيرها على الشأن الداخلي للولايات المتحدة ، وذلك كله يتناقض مع المسعى الإسرائيلي في اقتحام رفح الذي سيطول لمدة تزيد عن 100 يوم كحد أدنى وذلك وفقًا لتصريحات من مسؤولين في الاحتلال الإسرائيلي.
هذا فيما يتعلق بالشأن الداخلي الأمريكي، أما عن الأسباب الخارجية فيمكن القول إنّ هناك أسبابًا عدة منها مايتعلق بالمقاومة الكبرى التي تبديها حركة حماس والفصائل الأخرى في قطاع غزة وقدرتها على استنزاف الاحتلال الإسرائيلي ومن ورائه الولايات المتحدة واقتناع الأخيرة أنّ المعارك ضد حماس لو طالت لسنوات لن تودي في المحصلة إلى القضاء عليها بشكل كامل، خصوصًا مع سرعة إعادة حماس تنشيط نفسها في المناطق التي شهدت حربًا كبرى في الشمال والجنوب كما ذكرت إذاعة جيش الاحتلال (حماس تعيد تنظيم قواتها في مناطق واسعة من شمال غزة)، وأيضًا ترى واشنطن أنّ أخذ الأسرى لن يحصل بالحرب المدمرة بل سيكون عبر صفقة تبادل فقط، كما أنّ ضغط عوائل الأسرى بدأ يزداد خلال الفترة الماضية ووصل لأعلى مستوى وسط مظاهرات حاشدة للعوائل أمام بيوت قادة الاحتلال في تل أبيب، وكذلك الوعود التي قطعت لهم من قبل بايدن ومسؤوليه بإنجاح صفقة تبادل الأسرى في أقرب وقت.
إنّ توسع الحرب في غزة واستمرارها مع نية اقتحام رفح، يمكن أن يكون له أبعاد سياسية واقتصادية كبرى على الولايات المتحدة خصوصًا مع تنامي قوة الصين وروسيا في العالم، فأمريكا التي فقدت جزءًا من قوتها في إفريقيا لصالح روسيا بعد الانقلابات العسكرية هناك، خصوصًا مع تواصل أولئك القادة مع الدب الروسي والتنين الصيني فيما يتعلق بتحسين العلاقات السياسية وسبل التنقيب عن النفط والذهب والتعاون بين شركات البلدين بمعزل عن الولايات المتحدة، فبعد أن أجبرت الأنظمة الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر الجيش الفرنسي على الخروج من المنطقة، يتعرّض الجيش الأمريكي الآن لخطر أن يكون الضحية التالية في موجة الانقلابات وحركات التمرّد العنيفة التي تعصف ببلدان كثيرة في القارة. إن انسحاب القوات الأمريكية من النيجر – وإغلاق القواعد الجوّية التي تموّلها الولايات المتحدة في مدينتي نيامي وأغاديز من شأنه أن يعرّض مصالح واشنطن هناك، وقد صرح مسؤولون أمريكيون مؤخرا أنهم سيعيدون تركيزهم على القارة السمراء بعد الاضطرابات التي شهدتها مؤخرًا، وذلك كله لايتحقق بالشكل المطلوب إلا بعد تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط الذي يبدو في حالة غليان كبيرة.
وإذا ذهبنا شرقًا نجد أنّ واشنطن منشغلة أيضًا بحرب أوكرانيا التي وقفت إلى جانبها منذ بداية الغزو الروسي عليها وقدّمت لها مئات الشحنات والمعدات العسكرية، لكنّ تلك الشحنات قلّت بعد حرب إسرائيل على غزة، وازداد معها توغل روسيا في الأراضي الأوكرانية دون استطاعة قوات كييف صدها والتعامل معها كما السابق، وذلك وفق ما صرّح الرئيس الأوكراني، والذي أكد أنّ نقص الأسلحة النوعية التي كانت تقدم لهم من الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة كان له التأثير الأكبر في ذلك التراجع، وهذا كله يضع الولايات المتحدة الأمريكية تحت ضغط متعدد ويمكن أن يسمح لروسيا باستعادة عافيتها مجددًا في أرض المعركة.
في الجانب الآخر، فبرغم كل التصريحات والتهديدات الأمريكية التي دعت إسرائيل لوقف اقتحام رفح، نجد أنّ الأخيرة اقتحمت شرقي رفح وسيطرت على المعبر وأوقفت دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وكل ذلك قابله رد خجول من واشنطن التي ادّعت أنّ إسرائيل لم تتجاوز الخط الأحمر الذي رسمه بايدن بعد وإنما جاء الاقتحام لشرقي رفح بعد مشاورات مع القادة الأمريكيين، ليأتي ذلك مخالفًا للتصرحيات السابقة التي زعمت دعوة إسرائيل لعدم التقدم أبدًا نحو رفح التي تؤوي أكثر من مليون ونصف المليون مدني، ومعه يمكن أن تكون تلك التصريحات والعقوبات الخجولة (وقف شحنة الأسلحة) مجرد كلام يوجه للإعلام لتخفيف الاحتقان الشعبي في الداخل الأمريكي، والشعوب والدول الأخرى مع تقديم كل الدعم السري لإسرائيل في حربها القادمة في رفح.