الإمارات بين وهم القوة وإغراء الإمبراطورية: قراءة في مشروع التوسع وأسبابه البنيوية وآلات انهياره

مقدمة: من الدولة الوظيفية إلى الدولة المتغوّلة
شهد النظام الإقليمي في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي خلال العقدين الأخيرين تحولات عميقة، لم تكن ناتجة فقط عن انهيار دول مركزية أو صعود فواعل ما دون الدولة، بل أيضًا عن تحوّل بعض الدول “الصغيرة” من حيث الجغرافيا والديموغرافيا إلى لاعبين متغوّلين، يسعون إلى تعويض نقص العمق الاستراتيجي عبر فائض القوة الصلبة والمالية.
ضمن هذا السياق، تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج صارخ لدولة انتقلت من النفوذ الناعم إلى الهوس العسكري، ومن الدبلوماسية الاقتصادية إلى الاستعمار الوظيفي، ومن دور الوسيط إلى دور “شرطي الإقليم”.
هذه الدراسة تنطلق من فرضية مركزية:
أن المشروع التوسعي الإماراتي ليس تعبيرًا عن قوة حقيقية، بل عن قلق بنيوي، وأن هذا التوسع ذاته يحمل في داخله بذور الانهيار.
أولًا: التحول البنيوي في العقيدة الإماراتية – من الشيخ زايد إلى محمد بن زايد
خلال مرحلة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تشكلت صورة الإمارات كدولة:
-
تركّز على الاقتصاد والتجارة
-
تعتمد الدبلوماسية الهادئة
-
تستثمر في القوة الناعمة (ثقافة، تعليم، وساطة)
لكن مع صعود محمد بن زايد، حدث تحول جذري في العقيدة السياسية والأمنية، يمكن توصيفه بثلاث سمات رئيسية:
-
عسكرة القرار السياسي
-
تسييد المنطق الأمني على المنطق التنموي
-
اعتبار الإقليم مجالًا حيويًا مفتوحًا للتدخل
هذا التحول لم يكن استجابة لخطر وجودي مباشر، بل تعبيرًا عن نزعة استباقية مرضية ترى في كل فاعل مستقل تهديدًا محتملاً.
ثانيًا: وهم إسبرطة الحديثة – حين تقلّد الدول الصغيرة نماذج لا تشبهها
تستبطن القيادة الإماراتية نموذجًا قريبًا من “إسبرطة”:
-
دولة قليلة السكان
-
جيش محترف
-
تدخل خارجي دائم
-
احتقار السياسة لصالح القوة
غير أن هذا النموذج يتجاهل حقيقة أساسية:
إسبرطة سقطت لأنها لم تفهم حدود القوة، ولم تبنِ شرعية سياسية أو اقتصادية مستدامة.
الإمارات اليوم:
-
تعتمد على المرتزقة
-
تستورد العقيدة القتالية
-
تفتقر إلى جيش وطني متجذر
-
تفتقد إلى عمق اجتماعي قادر على تحمّل الحروب الطويلة
ما يُقدَّم كقوة، هو في الحقيقة قوة مُستعارة، هشة أمام أي تغير في موازين المصالح الدولية.
ثالثًا: الجغرافيا كغنيمة – خرائط التوسع من اليمن إلى ليبيا
1. اليمن: المختبر الأول للاستعمار الوظيفي
في اليمن، لم تدخل الإمارات حربًا دفاعية، بل مشروعًا متعدد الأبعاد:
-
السيطرة على الموانئ
-
تفكيك الدولة المركزية
-
دعم الانفصال
-
بناء مليشيات خارج إطار الشرعية
تحوّل اليمن إلى:
نموذج مصغّر لدولة مُدارة عن بعد، بلا سيادة، وبلا قرار.
2. القرن الأفريقي: موانئ مقابل السيادة
في:
-
جيبوتي
-
إريتريا
-
شمال الصومال “ميناء بوصاصو”
استخدمت الإمارات:
-
الإغراء المالي
-
العقود الغامضة
-
دعم نخب محلية هشة
لتحويل الموانئ إلى أدوات نفوذ جيوسياسي، في إعادة إنتاج واضحة لمنطق الاستعمار التجاري.
3. السودان وإثيوبيا: اللعب على خطوط التصدّع
دعمت الإمارات:
-
مليشيات عشائرية
-
قوى انقلابية
-
اقتصاد الحرب
مما ساهم في:
-
تفكيك المجتمعات
-
تعميق الانقسامات
-
إدامة الصراع بدل حله
4. ليبيا: خرق فاضح للنظام الدولي
في ليبيا، مثّلت الإمارات حالة نموذجية لـ:
-
انتهاك حظر السلاح
-
دعم انقلاب عسكري
-
عسكرة الصراع السياسي
وهو ما وضعها في موقع الدولة المارقة سلوكيًا داخل النظام الدولي.
رابعًا: أخلاقيات مزدوجة – تسليح الجميع ضد الجميع
أخطر ما في السياسة الإماراتية هو البراغماتية المنفلتة من أي معيار أخلاقي أو قانوني:
-
تدعم انقلابًا عسكريًا علمانيًا في مصر
-
تموّل مليشيات إسلامية متطرفة في الصومال وليبيا
-
تساند قوميين متطرفين في السودان
-
تدعم انفصاليين في اليمن
-
تتقاطع مع مشاريع تفكيكية في سوريا
العدو ليس أيديولوجيا محددة، بل:
أي مشروع سياسي مستقل، شعبي، أو غير قابل للضبط.
خامسًا: التناغم مع إسرائيل – المصالح فوق المبادئ
التقاطع الإماراتي–الإسرائيلي ليس تطبيعًا تقنيًا، بل:
-
تشارك في رؤية أمنية واحدة
-
عدو مشترك (الديمقراطية، الإسلام السياسي، السيادة الشعبية)
-
استثمار مشترك في الفوضى المُدارة
هذا التحالف يعمّق عزلتها الشعبية، ويضعها في مواجهة الوجدان الجمعي العربي.
سادسًا: انهيار الأخلاق في العلاقات الدولية
السياسة الإماراتية تمثل انتقالًا من:
-
الواقعية السياسية
إلى: -
العدمية السياسية
حيث:
-
لا سيادة تُحترم
-
لا تحالفات تُحفظ
-
لا مواثيق تُلتزم
وهو مسار يُنتج:
نظام علاقات هش، قابل للانقلاب في أول لحظة تبدّل مصالح.
سابعًا: إمبراطورية بساق دجاجة – لماذا سيكون التوسع سبب السقوط؟
كل الإمبراطوريات سقطت حين:
-
بالغت في تقدير قوتها
-
قلّلت من كلفة التوسع
-
تجاهلت العامل الأخلاقي
الإمارات اليوم:
-
بلا عمق بشري
-
بلا شرعية شعبية خارج حدودها
-
معتمدة على الحماية الغربية
-
مكشوفة أمام أي تحوّل دولي
إنها:
إمبراطورية مالية بلا روح، وعسكرية بلا مجتمع، وسياسية بلا أخلاق.
خاتمة: من فائض القوة إلى فائض العداء
ما تفعله الإمارات اليوم قد يحقق مكاسب قصيرة المدى، لكنه:
-
يراكم العداء
-
يزرع الكراهية
-
يخلق ذاكرة جماعية سلبية
-
يضعها في مواجهة التاريخ
والتاريخ، بخلاف المال، لا يُشترى.



