الرابحون والخاسرون جيوسياسيا من عودة طالبان المنتصرة إلى كابل
●يكشف الانتصار السريع لحركة طالبان أنها القوة الأساسية في البلاد، وأن الواقع الذي فرضته خلال الأسبوع الماضي سيمثل مستقبل أفغانستان المنظور. من الواضح أن الولايات المتحدة والقوى الغربية لا ترفض بشكل مبدئي عودة طالبان للحكم، لكنّ موقفهم النهائي من حكم الحركة سيتشكل بناء على برنامج أعمال حكمها الداخلية.
● في المقابل، تنظر القوى المجاورة لأفغانستان لحكم طالبان وفق محددات جيوسياسية معقدة، مازالت تتفاعل مع سياسات طالبان المحتملة داخليا وخارجيا لتشكل مواقف هذه الأطراف بصورة أوضح مع الوقت.
● بصورة عامة، يخدم صعود طالبان، بنسب متفاوتة، كلا من الصين، وروسيا، وباكستان، وقطر، وتركيا. فيما يمثل تحديا كبيرا لإيران، وخسارة مباشرة لكل من الإمارات والهند. من المبكر الجزم بأن خسائر هذا الأطراف ستكون طويلة الأمد، في ظل إمكانية أن تسعى لإعادة تعريف علاقاتها مع طالبان كي تتجنب خسائر إقليمية واسعة. لكن المحصلة العامة أن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة تعرض لهزيمة استراتيجية.
● سيكون على طالبان الاستفادة من الواقع الجديد الذي سيجعلها موضع سباق بين الأطراف المتنافسة جيوسياسيا، وستعمل على الاستفادة من هذه المصالح المتنافسة في تعزيز بدائل تحالفاتها الخارجية.
● داخليا، ستشكل أيضا سياسة طالبان الداخلية تجاه التنوع العرقي والطائفي محددا إضافيا لعلاقاتها مع قوى خارجية مثل تركيا وإيران. وإن كان من المتوقع أن تكون طالبان أكثر مرونة داخليا مقارنة بفترة حكمها السابق.
الحدث
بعد حوالي أسبوع من تتابع سيطرتهم المذهلة على مدن أفغانستان، وبعد 20 عاما من إنهاء حكمهم للبلاد على يد الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة، دخل مقاتلو حركة طالبان إلى كابل، يوم 15 آب/أغسطس دون قتال. كان من المرجح تماما أن الانسحاب الأمريكي، وبالتبعية انسحاب قوات الناتو، سينتج عنه عودة طالبان كطرف رئيسي في حكم البلاد. لكن السيطرة الشاملة خلال أيام قليلة وانهيار الجيش الذي دربته وأنفقت عليه الولايات المتحدة أذهل حتى مسؤولي الإدارة الأمريكية والبنتاغون. أعلن قادة الحركة من القصر الرئاسي في كابل، بعد هروب الرئيس أشرف غني خارج البلاد، انتهاء الحرب. وأكد قادة طالبان في تصريحات متواترة لوسائل الإعلام الدولية وبيانات للحركة أنهم لن يقبلوا بتشكيل سلطة انتقالية، بل سيتسلمون السلطة كاملة وسيتم إعلان “إمارة أفغانستان الإسلامية” قريبا، مع التأكيد على مغادرة كافة القوات الأجنبية.
أي مستقبل لطالبان؟
تضمن قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إقرارا ضمنيا بقبول وجود طالبان كطرف رئيسي في حكم البلاد. ومن ثم فإن انتصار طالبان الساحق من حيث المبدأ لن يثير عداوة الغرب، خاصة بعد طريقة دخول طالبان كابل والتي تكشف عن نوع من التفاهمات التي جرت مع الولايات المتحدة. ومن ثم ستتشكل سياسة الغرب، خاصة الولايات المتحدة، تجاه حكم طالبان بناء على توجهات طالبان المقبلة المتعلقة بعدة قضايا، تتباين في أهميتها، مثل:
مدى التزام طالبان بمنع استخدام أفغانستان كساحة للجماعات المسلحة؛
مسألة تشكيل الحكومة المقبلة؛
السياسة المحلية تجاه الأقليات والنساء ومسائل الحريات.
بالنسبة لطالبان، سيكون التحدي الأساسي هو الإدارة اليومية للفضاء المعقد في أفغانستان والتأكيد على أفكارها القومية والإسلامية دون إثارة تهديدات فورية من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا.
من المرجح كذلك أن طالبان تعتبر القوى الخارجية القريبة هي مصدر اهتمامها الأكبر وأن القوى البعيدة هي بعيدة بالفعل. ولذلك فإن المصالح الروسية في آسيا الوسطى، إلى جانب حدود الصين مع أفغانستان ومبادرة “الحزام والطريق”، تمنح هاتين القوتين الكبيرتين مزيدًا من الاهتمام المباشر مقارنة بالولايات المتحدة. تواصلت الصين بالفعل مع طالبان ووضعت مصالحها الأساسية، والتي تشمل التأكد من أن أفغانستان ليست ملاذًا آمنًا لمقاتلي “الإيجور” أو المتعاطفين الذين يمكنهم ضرب الصين. كذلك، فإن أماكن مثل باكستان وطاجيكستان وأوزبكستان وإيران، تمثل أولوية لدى طالبان خارجيا؛ حيث تعبر مصالحهم العرقية والطائفية بوضوح الحدود.
وكتقدير عام، ستعمل طالبان على الاستفادة من الواقع الجديد الذي فرضته، والذي سيجعلها بصورة ما محل سباق بين الأطراف المتنافسة جيوسياسيا. حيث تدرك الحركة طبيعة التنافس الأمريكي الصيني، والصيني الروسي، والتركي الروسي، والباكستاني الهندي، والإيراني الباكستاني، وحتى التنافس في منطقة الشرق الأوسط بين إيران والسعودية. صحيح أنه ليس من المتوقع أن تقف الحركة على الحياد دائما بين هذه الأطراف، خاصة بين باكستان والهند في قضية كشمير، إلا أنها ستعمل على الاستفادة من هذه المصالح المتنافسة في تعزيز بدائل تحالفاتها الخارجية.
حسابات الربح والخسارة ومستقبل التحالفات من المبكر تماما الجزم بمن هم حلفاء طالبان الجدد، ومن هم أعدائها. وسيحدد عاملان أساسيان هذه المسألة أكثر خلال الأسابيع القليلة القادمة:
أولا: سياسات طالبان نفسها كقوة تحكم البلاد. فلا تمثل وعود الحركة أو تطميناتها السابقة موقفا نهائيا لما ستكون عليه سياسة البلاد المرحلة المقبلة. ومن ثم، تنتظر كافة الأطراف، وربما تمارس مساومات، حتى تبلور سياسات النظام الجديد. فمثلا، ستتشكل العلاقة مع إيران من خلال إجراءات طالبان الفعلية كسلطة حكم تجاه الشيعة الأفغان. كما أن موقع الأوزبك في النظام الجديد سيؤثر على نظرة تركيا لحكم طالبان.
ثانيا: نظرة الأطراف الخارجية لطالبان في سياق مصالحها وحساباتها الجيوسياسية بغض النظر عن نمط حكم طالبان للبلاد. فلا شك أن دولة الإمارات أصيبت بخيبة أمل نتيجة انهيار حكومة كابل، لكنها قد تتجنب قطع العلاقات مع طالبان كي لا تكون أفغانستان الجديدة حليفا خالصا لقطر في قضايا المنطقة. كذلك، ليس من المرجح أن تزهد طهران في العلاقات مع حكومة طالبان الإسلامية السنية كي لا تتحول أفغانستان إلى ساحة خلفية معادية تستخدمها السعودية والولايات المتحدة. وهكذا، فإن مصالح الأطراف الجيوسياسية مازالت تتفاعل مع سياسات طالبان المحتملة داخليا وخارجيا لتشكل مواقف هذه الأطراف بصورة أوضح مع الوقت.
لكن، في كل الأحوال، ثمة رابحون وخاسرون، بنسب متفاوتة، جراء الانسحاب الأمريكي وانهيار حكومة كابل وعودة طالبان منتصرة إلى حكم أفغانستان. ولأن خسارة الولايات المتحدة ليست محل جدال، نلقي هنا الضوء على باقي الأطراف.
أولا: الرابحون
قطر
لا شك أن دولة قطر تعتبر أبرز الفائزين من صعود طالبان. على مدار السنوات الماضية استطاعت الدوحة كسب ثقة طالبان أكثر من أي طرف خارجي، ووفرت ملاذا سياسيا لقادة الحركة مكنهم من تحقيق أبرز نصر سياسي ممثلا في الاتفاق الموقع مع إدارة ترامب والذي مهد لمشهد الانتصار الحالي.
بجانب أي فرص اقتصادية محتملة لقطر في أفغانستان الجديدة، فإن مكسبها الأساسي يقع في الشرق الأوسط، حيث تعزز موقعها كقوة وساطة محترفة وموثوقة. ذلك أن قطر قد لا تحمل أجندة مصالح تتعلق بآسيا الوسطى مثلا، لكنّ هذا التطور يعطي الدوحة مزيدا من السمعة السياسية كوسيط ناجح. خاصة بعد أن فشلت منصات أخرى كانت مرشحة للعب هذا الدور، وبعد أن رفضت طالبان نفسها مساعي أطراف أخرى أن تحل محل قطر، بينهم منافسين إقليميين مثل دولة الإمارات.
العلاقة بين طالبان وقطر ستكتسب أهمية إضافية حتى بعد انتصار الحركة، حيث ستلعب قطر دورا مهما في التقريب بين قادة الحركة وباقي الأطراف الأفغانية من خلال إنشاء هيئة مراقبة جديدة برعاية قطرية، معنية بالعملية الانتقالية وتشكيل الحكومة المقبلة.
باكستان
لسنوات طويلة دعمت باكستان حركة طالبان، لأسباب قبلية وأيديولوجية وأمنية، رغم تحالفها مع الولايات المتحدة. وفي مقابل استثمار باكستان في علاقتها مع طالبان، راهنت الهند على الحكومة المدعومة من الغرب. لذا، يمثل حكم طالبان ربما نهاية للنفوذ الهندي المناوئ لباكستان عبر حدود أفغانستان.
من جهة أخرى، من المتوقع أن تستفيد باكستان من علاقاتها مع طالبان في ضمان تأمين طرق الحرير البرية عبر أفغانستان المتجهة إلى ميناء گويدر (جوادر Gwadar). بالإضافة إلى عدة موانئ أخرى قد يتم تفعيلها أكثر، مثل كيتي بنودر، بورت قاسم، كارتشي بورت.
أما في المسألة الكشميرية، فمن المتوقع أن تتلقى باكستان دعما من حكومة طالبان، خاصة إذا تم اتخاذ خطوات في هذا الملف عن طريق باكستان وتركيا معاً.
تركيا
على الرغم من التوتر الأخير بين تركيا وطالبان، إلا أن أنقرة فيما يبدو ليست متشائمة من صعود طالبان. ثمة مؤشرات أن مسألة مطار كابل جاري التفاهم حولها، وأن تركيا ستتخذ موقفا إيجابيا تجاه حكومة طالبان المنتظرة. وهو ما بات واضحا في ظل إعلان تركيا أنها مستعدة للاستمرار في تقديم التشغيل الفني للمطار “إذا طلبت طالبان ذلك”، وهي رسالة تعيد صياغة العلاقة وفق أسس مقبولة من قبل طالبان الراغبة في إنهاء صفحة التواجد الأجنبي المرتبط بالاحتلال.
ومن المهم ملاحظة أن الأطراف الخارجية المقربة من طالبان، مثل قطر وباكستان، ستلعب دورا في التوصل لتفاهمات بين أنقرة وطالبان. وفي نفس الوقت، تحظى تركيا بدعم من حلفائها في الناتو للاستمرار في مطار كابل كضمانة لأمن حركة الطيران الدولي. وهي مسألة تحقق مصلحة لطالبان التي لا ترغب في استهلال عهدها بعزلة دولية.
الصين وروسيا
على الرغم من عدم تطابق مصالحهما، إلا أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة يخدم مصالح كل من الصين وروسيا. كما أن الانسحاب الأمريكي يخدم دعاية بكين وموسكو المناهضة للولايات المتحدة، حيث سيكون من المفيد الإشارة لكيفية تخلي واشنطن على حلفائها حين تخاطب الصين باكستان على سبيل المثال، أو حين تمارس روسيا ضغوطها على جمهوريات آسيا الوسطى.
لذلك، ليس من المفاجئ استنتاج أن الصين اعتمدت بالفعل طالبان ليكونوا حكام أفغانستان التاليين، خاصة بعد الاجتماع العلني اللافت في يوليو/تموز بين وزير الخارجية الصيني وانغ يي، ورئيس اللجنة السياسية القوي لطالبان الملا برادر.
الصين عازمة على الحفاظ على استثماراتها في أفغانستان. وعلى الرغم من أن مبادرة الحزام والطريق لا تشمل أفغانستان، إلا أنها مهمة كطريق عبور عبر آسيا الوسطى إلى دول أخرى مثل إيران، التي وقعت الصين معها اتفاقية اقتصادية وأمنية مدتها 25 عامًا.
وعلى الرغم من استمرار تصنيف موسكو للحركة كمنظمة إرهابية، فإن اللقاءات بين مسؤولي الحركة والمسؤولين الروس لم تنقطع خلال الأشهر الأخيرة. وكان السفير الروسي هو الدبلوماسي الوحيد ربما الذي يجتمع مع وفد من قيادات الحركة بعد سيطرتهم التامة على كابل. وتشير كافة التعليقات الروسية الرسمية إلى ترحيب ضمني بسيطرة طالبان والتقليل من المخاوف التي أثارها السياسيون الغربيون.
التقدير المباشر أن روسيا والصين هما الرابحين من حكم طالبان لأفغانستان، غير أن ذلك لا يعني مكاسب خالصة لهما، بل ينطوي الأمر على مخاوف إقليمية وداخلية؛ فوجود طالبان في الحكم يعد على المدى البعيد سندا للقوى والحركات الرافضة للهيمنة الروسية في آسيا الوسطى والقوقاز، وسندا معنويا على الأقل للإيغور في الصين، وعاملا مرجحاً لقوى إقليمية منافسة مثل تركيا وباكستان. مع الإشارة إلى أنه ليس واضحاً بعد كيف ستتعامل طالبان مع ملفات مفتوحة حالياً مثل ناشطي الإيغور خاصة العائدين من أماكن مثل سوريا.
ثانيا: الخاسرون
الإمارات العربية المتحدة
على الرغم من أن الإمارات كانت بين الدول القليلة التي أقامت علاقات ديبلوماسية مع حكومة طالبان، إلا أن التحول في السياسة الخارجية الإماراتية منذ هجمات 11 سبتمبر، نحو تحالف وثيق مع الغرب وخاصة التيارات اليمينية والعداء السافر للحركات الإسلامية نتج عنه تباعد كبير بين الإمارات وطالبان.
في الواقع، وضعت الإمارات رهانات كبيرة على حكومة كابل المنهارة، ولم تتمكن من كسب ثقة طالبان حين سعت لأن تستضيف جولة المفاوضات بين الحركة والولايات المتحدة. ومن ثم انخرطت في المعسكر المناهض للحركة لدرجة أنها وافقت على استضافة مقر عمليات الطائرات بدون طيار الذي أعلن عنه البنتاغون كي يكون داعما للجيش الأفغاني ضد طالبان بعد الانسحاب الأمريكي، وهي دلالة لافتة على اصطفاف أبوظبي في المعسكر المناوئ لعودة طالبان.
ستنعكس هذه الأحداث بشكل أو بآخر على توازنات التنافس بين دول الخليج العربي، بالأخص مع دولة قطر، وهو تنافس استراتيجي أبطء اتفاق العلا حدته لكن ملفاته الإقليمية لازالت مفتوحة، وجولة أفغانستان ستؤثر على حضور الامارات – وبدرجة أقل السعودية – في صراعات آسيا الوسطى في المرحلة المقبلة.
من الجدير ذكره أن السعودية كذلك تُحسب في صفوف الخاسرين. فمن جانب، تاريخياً كانت السعودية صاحبة التأثير الأكبر في ملف أفغانستان، حتى تصدرت الامارات ميدانياً التعاون مع الولايات المتحدة وغابت السعودية عن المشهد منذ سنوات طويلة، وهذا سينتقص من نفوذها الإقليمي بعد سيطرت طالبان على أفغانستان.
الهند
تعتبر الهند من أكثر الدول استثمارا اقتصاديا وعسكريا في النظام الأفغاني المنهار، وهي سياسة ارتبطت بصراعها طويل الأمد مع باكستان التي كانت داعما أساسيا لحركة طالبان. لذا تعتبر الهند خاسر كبير مما جرى، وستسعى – في تقديرنا – إلى المحافظة على استثماراتها في أفغانستان واستخدامها في تقليص الضرر ولإقامة علاقات ودية مع طالبان اعترافا بالواقع الجديد.
وبينما تسعى الهند لتغيير الواقع في كشمير بصورة نهائية، فإن صعود قوة إسلامية مثل طالبان في المنطقة من شأنه أن يعزز من الدعم الإقليمي لموقف باكستان والمجموعات الموالية لها في كشمير، حيث من المرجح أنها لن تتغاضى عن سياسات حكومة الهند القومية الهندوسية المتطرفة.
من جهة أخرى، تعزز الهند علاقاتها مع الولايات المتحدة في مواجهة نفوذ الصين المتنامي، ومن ثم فإن الانسحاب الأمريكي وسيطرة طالبان الشاملة مع توقع دور صيني أوسع في أفغانستان خاصة في الجوانب الاقتصادية، يمثل تغيرا جيوسياسيا في المنطقة لمصلحة بكين على حساب الهند.
ثالثا: إيران وحسابات الربح والخسارة
يبدو الموقف الإيراني أكثر تعقيداً من أن يصنف ضمن حسابات الربح والخسارة المباشرة. فمن ناحية، يمثل الانسحاب الأمريكي وإنهاء تواجد واشنطن العسكري والاستخباري الواسع في أفغانستان مكسبا لطهران. خاصة وأن هذا التواجد لم يكن من المستبعد أن يوظف ضد إيران في مواجهتها المتصاعدة في المنطقة مع الاحتلال الإسرائيلي. كما أن طهران استطاعت، رغم الاختلاف المذهبي، في بناء علاقة مفيدة مع طالبان خلال السنوات الماضية، ربما تضمنت نوعا من الدعم العسكري.
لكن في المقابل، ثمة تحديات سيكون على إيران التعامل معها. فعندما سيطرت “طالبان” على مدينة “مزار شريف” في أغسطس/آب 1998، هاجم مسلحون القنصلية الإيرانية هناك، حيث قتل 10 دبلوماسيين. دفع الحادث طهران إلى حافة ضربة عسكرية شاملة ضد “طالبان” التي تبرأت من الهجوم، تم إيقافها بأمر من المرشد الأعلى “علي خامنئي”. والآن، بعد مرور 23 عاما من الهجوم، عادت طالبان للسيطرة على مزار شريف، وقام مقاتلو الحركة بإنزال رايات الشيعة السوداء ورفع أعلام طالبان.
ومن ثم، تدرك إيران تماما أن التمكين لقوة سنية محافظة مثل طالبان من شأنه أن يهدر الاستثمار الإيراني الضخم في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية في أفغانستان، ما يعني فقدان إيران نفوذها. لذلك لم يكن تشكيل حكومة تديرها طالبان بالكامل تحت راية “الإمارة الإسلامية” السيناريو المفضل لدى طهران، لكنه أصبح الآن واقع البلاد الجديد، خاصة أن هذا الواقع أفقد شيعة أفغانستان (نحو 7% من السكان) مكتسب مهم من اتفاق المصالحة في الدوحة، الذي أعطاهم 25% من مقاعد البرلمان الأفغاني، وهو ما أزعج مسؤولين إيرانيين وفق معطيات خاصة وردت لأسباب.
المعطيات الخاصة نقلت عن المسؤولين الإيرانيين تخوّف آخر من أفغانستان بقيادة طالبان، هو أن تصبح للحركة أجندة خارجية من قبيل تنفيذ عمليات أمنية وتأثير و/أو دعم لجماعات عرقية أو دينية خارج حدود أفغانستان مستقبلاً، الأمر الذي يتوقعون أن يستهدف الداخل الإيراني ومناطق نفوذها إقليمياً.
مؤخرا، شرعت طالبان في حملة لتحسين صورتها في أذهان الإيرانيين. زار ممثلو الحركة السفارة الإيرانية في الدوحة العام الماضي لتقديم تعازيهم بعد مقتل العالم النووي “محسن فخري زاده”. علاوة على ذلك، أجرى مسؤولو طالبان مقابلات متعددة مع وسائل الإعلام الإيرانية في الأسابيع الأخيرة، لتهدئة مخاوف طهران. مؤكدين على “الروابط الأخوية مع جمهورية إيران الإسلامية”.
وعلى الرغم من المخاوف الإيرانية، من المرجح أن تعمل طهران على تجنب الصدام مع طالبان والبحث عن علاقة تحد من مخاطر تحول أفغانستان لبيئة معادية. وهو الأمر الذي أشار إليه جواد ظريف، معتبرا أن التهديد الأكبر بالنسبة لإيران هو تشكيل نظام سياسي مناهض في أفغانستان؛ محذرا من محاولة بعض الدول العربية في الخليج مع الولايات المتحدة تمويل وتوجيه طالبان لإضعاف طهران وصرف انتباهها عن العراق والدول العربية الأخرى.
خاتمة
ستغطي التداعيات الجيوسياسية لانتصار طالبان جوارها الجغرافي كما أنها لن تكون بعيدة عن منطقة الشرق الأوسط. وبينما تتجه كافة الأطراف للاستجابة لهذا التطور الكبير، يبدو النفوذ الأمريكي في المنطقة في انحسار مقابل مكاسب للصين وروسيا. كذلك، ستحقق كل من تركيا وباكستان مكاسب بينما تبددت رهانات الهند على الحكومة المدعومة من الغرب. أما في الشرق الأوسط، فلا شك أن مكاسب قطر وخسائر الإمارات سيكون لها تداعيات على التنافس الإقليمي المستمر بين البلدين. أما طالبان نفسها، فسيكون عليها الاستفادة من الواقع الجديد الذي فرضته، والذي سيجعلها موضع سباق بين الأطراف المتنافسة جيوسياسيا، وستعمل على الاستفادة من هذه المصالح المتنافسة في تعزيز بدائل تحالفاتها الخارجية
أسباب.