الدراسات والبحوث

سيناريوهات مفتوحة في درعا في ظل تعقيد كبير ومتغيرات سياسية

يُصادف التصعيد في درعا جنوب سوريّا الذكرى الثالثة لتوقيع فصائل المعارضة السوريّة “الجبهة الجنوبية” اتفاق التسوية في تموز/ يوليو 2018، برعاية روسية أردنية إسرائيلية، بعد بيان وجهته الإدارة الأمريكية السابقة لفصائل المعارضة أعلنت فيه رفع يدها عن دعمها بقولها: “نفهم أنه يجب اتخاذ قراركم حسب مصالحكم ومصالح أهاليكم وفصائلكم كما ترونها، وينبغي ألّا تسندوا قراركم على افتراض أو توقع بتدخل عسكري من قبلنا”. وبطبيعة الحال، فقد دفع ذلك الأمر النظام السوري والقوات الإيرانية الداعمة له، وبإسناد من الطيران الروسي، لشن عملية عسكرية واسعة على المدينة انتهت باتفاق “تسوية” تضمنت عدة بنود، كان أبرزها: تسليم المعابر الحدودية للقوات الحكومية، وتسليم السلاح الثقيل والمتوسط من الفصائل العسكرية للنظام، ودخول مؤسسات الدولة إلى المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام سابقًا وعودة الموظفين إلى أعمالهم، إضافة إلى تسوية أوضاع المسلحين والمطلوبين من أبناء المحافظة، وإعطاء مهلة زمنية مدتها ستة أشهر لمستحقي الالتحاق بالخدمة الإلزامية، ووقف حملة الاعتقالات والملاحقات الأمنية بالإضافة إلى الإفراج عن المعتقلين.
وعلى هذا الأساس، شكّلت المعارضة السورية ما يسمى “لجنة المفاوضات المركزية” التي حظيت بقبول شعبي كبير، وتألفت من قيادات سابقة في الجبهة الجنوبية ووجهاء وناشطين، وهي شخصيات مخولة بالمفاوضات مع النظام السوري وروسيا ونقل مطالب الأهالي.
ولكن سرعان ما انهارت التسوية، وذلك عقب عدم التزام النظام السوري بالوعود التي أطلقها للجنة، كإخراج المعتقلين، وتسوية أوضاع المنشقين والمعارضين، وتخفيف القبضة الأمنية، والعمل على عودة المؤسسات الخدمية، ما تسبب بحالة غليان في المحافظة؛ لتعود التظاهرات من جديد.
في آذار/ مارس 2020، تعقّد المشهد أكثر في المحافظة، حيث اندلعت اشتباكات عسكرية بين الفصائل المحلية “المعارضة” وقوات الفرقة الرابعة في مدينة “الصنمين”، انتهت بتهجير عدد من العائلات إلى الشمال السوري.

عقدٌ على الثورة والعودة لنقطة الصفر
في 18 آذار/ مارس 2021، خرجت معظم المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية في الشمال السوري في مظاهرات كبيرة، أكدت من خلالها مطالبها بتغيير النظام السوري ودعمها لعملية التحول والانتقال الديمقراطي، في حين كانت محافظة درعا تشهد دعوات للتظاهر، حيث انطلقت مظاهرة حاشدة أمام الجامع العمري، وهو ذات المكان الذي انطلقت منه أولى المظاهرات في عام 2011، وذلك للتأكيد على موقف درعا من الثورة السورية ومن عمليات التغيير برمتها، وكذلك رفضها الحصار الأمني والعسكري المفروض عليها، وللتعبير عن عدم قناعتها بالتسوية التي فرضت عليها، لا سيما بعد خرق النظام السوري للكثير من الاتفاقات واستمراره بنهجه العسكري.
أزعجت هذه المظاهرات النظام السوري كما أزعجت روسيا، الجدير بالذكر أن تظاهرات سابقة كانت قد انطلقت من ذات المكان رافضة للانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام السوري في (2021)، أحرق فيها الأهالي الكثير من النقاط التي كان من المفترض أن يُجرى بها عمليات الاقتراع (التصويت).
سبب هذا التطور احتقانا كبيرا بين أطراف التسوية التي أصبحت مواقفها على المحك، فبدأت تظهر للأفق مآلات هذا التصعيد، حيث شرعت روسيا بفرض عقوبات على الفيلق الخامس واللواء الثامن المرتبطين، بشكل مباشر، بقاعدة “حميميم” الروسية، فقطعت الدعم المالي عنهم وذلك بعد تخلفهم عن حماية المراكز الانتخابية، واصطفاف بعض العناصر مع خيار المقاتلين المحليين.
بات أهالي درعا يحظون بثقل كبير في المحافظة جراء ضعف النظام والقوات الإيرانية وعدم قدرتهم على فرض خياراتهم على أهالي المحافظة، رغم عمليات التهجير التي قاموا بها. وعلى عكس المناطق السورية الأخرى، لم يحقق النظام وحلفاؤه نجاحا ملحوظا في درعا، وهذا يعود لإصرار الكثير من الأهالي والمقاتلين البقاء في المحافظة، والحفاظ على أسلحتهم الخفيفة.
الجدير بالذكر أنّ النظام السوري لم يستطع الدخول إلى غرب مدينة درعا أي “درعا البلد”؛ إذ أنّ الفصائل العسكرية المحلية هناك ما تزال تفرض سيطرتها بشكل كامل مع دخول مرافق ومؤسسات النظام الخدمة، وهذه من الأسباب المهمة التي لم تساعد النظام السوري على فرض سيطرته على المدينة.
هذه التطورات قد دفعت النظام لإعادة النظر باتفاقية التسوية (2018) والمحدثة في (2019) وبالخيارات التي من المفترض أن يقوم بها، وهو بكل تأكيد الخيار العسكري والسيطرة الكاملة على المحافظة وتجريد المقاتلين من كل أسلحتهم.

العملية العسكرية خيار النظام الأخير
طالب النظام السوري فصائل المعارضة السورية تسليم سلاحها بشكل كامل، وحصر الانتشار العسكري بقواته، رغبة منه في احتكار أدوات القوة والعنف، وفرض سيادته بشكل كامل على المحافظة، وهو ما رفضه أهالي المدينة فاندلعت المواجهات بين قوات النظام مدعومةً بالفرقة الرابعة (تسيطر عليها إيران) والقوات الإيرانية من جهة والفصائل المحلية من جهة أخرى،
حيث تفاجأ أهالي درعا بشن النظام عملية عسكرية واسعة على درعا البلد بعد فشل المفاوضات بين اللجنة المركزية وقائد الخلية الأمنية المسؤولة عن المنطقة.
اعتقد النظام السوري، لأول وهلة، أنّه سيكون قادراً على حسم المعركة خلال ساعات، معولاً على ضعف الإمكانات العسكرية لدى المعارضة وامتلاكها السلاح الخفيف والفردي، على عكس قواته المدججة بأسلحة روسية متطورة، بالإضافة إلى الفارق العددي والتنظيمي الذي كان عاملاً مهماً في حسم المعركة لصالح النظام السوري.
تفاجأ النظام بموقف شرس من قبل القوات المحلية التي صدت تقدمه، بل واستغلت الفرصة لتشن عملية عسكرية معاكسة على مواقع النظام، وبالفعل استطاعت السيطرة على عدد من المدن والبلدات أبرزها؛ صيدا، تسيل، طفس، نوى، نمر، وأم الميادين.
علاوة على ذلك، تمكنت فصائل المعارضة المحلية من اعتقال المئات من قوات النظام السوري، حيث سربت العديد من الفيديوهات تظهر التفوق العسكري للفصائل، الأمر الذي دفع النظام للدعوة لهدنة مدتها 48 ساعة، وقد وافقت عليها الفصائل التي كانت، على ما يبدو، في موقف جيد في هذه المعركة.
عززت فصائل المعارضة من موقفها التفاوضي بعد أن كانت تطالب بالسماح لها بالانتقال إلى مناطق الشمال السوري في حال أصر النظام على القيام بعملية عسكرية، فمنحها ذلك امتيازا مكنها من رفع سقف شروطها في المفاوضات مع قوات النظام.
الجدير بالذكر أنّ الطيران الروسي، لم يشارك في العمليات العسكرية، وكذلك الفيلق الخامس التابع لقاعدة “حميميم” والذي يتكون من فصائل المعارضة السورية، مع ورود بعض الأنباء التي تتحدث عن مشاركة بعض العناصر ولكن دون إعلان رسمي من الفيلق الذي غالباً سيكون موقفه داعماً للفصائل المحلية، حيث سيتسبب دخول النظام السوري إلى درعا البلد خسارة الفيلق لامتيازاته العسكرية والسياسية التي حاز عليها بعد التسوية التي أجراها مع روسيا.

السيناريوهات المحتملة وخيارات المعارضة

عدم الاتفاق وعودة الصدام:
من الوارد أن يشن النظام السوري عملية عسكرية واسعة على المحافظة، ليحد من حصول الفصائل العسكرية على أي مكاسب إضافية بعد تقدمها في المعارك الأخيرة، ولكن أوراقه في هذا الخيار تبقى ضعيفة ميدانيا وعسكريا؛ بسبب غياب الطيران الحربي الذي يبقى قراره بالمشاركة خاضعا للموافقة الروسية.
بالنسبة لموقف روسيا الرسمي من العمليات الأخيرة، فإنه ما يزال غير واضح، لكنها على الأرجح لا تذهب لخيار مساهمة الطيران الحربي في العمليات، وذلك لعدة أسباب أبرزها: أن روسيا لا تريد استفزاز الجانب الإسرائيلي، وخاصةً بعد الوعود التي أطلقتها للولايات المتحدة وإسرائيل بفرض تسوية من شأنها إنهاء النزاع العسكري، مع العلم أن عودة الطيران الحربي سيعني حتماً العودة إلى نقطة البداية والمربع الأول، ما يعني فشل روسيا في ملف درعا وتقلص كل الخيارات التي قد يكون من بينها عودة الدور الأمريكي.
الجدير بالإشارة أن عدم مشاركة الطيران الحربي في معركة درعا سيمنح الفصائل المحلية أفضلية عسكرية ويرجح كفتها على النظام والإيرانيين، لا سيما بعد تشكيل لجنة مركزية واحدة تمثل كل أهالي حوران، وهذا الأمر سيضاعف من فرص مشاركة الفيلق الخامس في المعارك ، ويضع النظام في موقف محرج.
وعلى أية حال، فإن هذا لا يلغي احتمال اصطفاف روسيا إلى جانب النظام السوري والقوات الإيرانية في المعارك، فبالرغم من كل ذلك، فإن مشاركة روسيا ماتزال واردة كونها تؤمن بالخيار العسكري لصالح النظام.
هذا الاحتمال ستتضاعف نسبة وقوعه إذا حصل أي توافق روسي إيراني على شن عملية عسكرية على محافظة درعا، وحينها سيكون موقف المعارضة المحلية ضعيفا، لا سيما إذا قرر الطيران الروسي المشاركة في المعركة، واستمر غياب الإمداد وإغلاق الأردن لمعبر نصيب الحدودي.

التهدئة والعودة للتسوية القديمة:
تستغل الفصائل المحلية المعارضة الموقف الإسرائيلي المعارض لأي عمليات عسكرية في درعا ، فروسيا قدمت وعودا سابقة لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو بإبعاد القوات الإيرانية مسافة 80 كيلومتر عن حدودها الشمالية، وهذه الوعود لم تتم جراء التقدم المستمر للقوات الإيرانية، الأمر الذي قد يجعل قرار دعم المعارضة السورية ضمن خيارات إسرائيل والولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، فإن وجود القوات الإيرانية على الحدود الأردنية مرفوض بشكل قطعي، وهذا ما عبر عنه الملك الأردني خلال تصريحات أدلى بها أواخر تموز/ يوليو 2021.
تجدر الإشارة إلى أن الإدارة الإسرائيلية الجديدة من المحتمل أن تقوم ببعض التغييرات على الملف السوري، ولا سيما الجنوب السوري، إذ أوصى معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بناء شبكة علاقات محتملة داخل سوريّا لمواجهة النفوذ الإيراني.
وفي حال تم هذا الأمر فإن النظام السوري وروسيا سيكونون في موقف محرج، في مقابل هذا ستحصل الفصائل على امتياز جديد يمكنها من رفع سقفها التفاوضي وتفرض شروطها بالعودة إلى التسوية السابقة مع الأخذ بعين الاعتبار التزام الطرف الأخر.

تسوية جديدة:
من المحتمل، وحسب المعطيات المتوفرة، أن تتوصل الأطراف إلى تعديلات جوهرية على تسوية (2018) أو إلى تسوية جديدة من شأنها أن تكون مناسبة وتتماشى مع الاعتبارات العسكرية والأمنية الحديدة، بحيث يتم إنهاء الحصار عن محافظة درعا، وتحويل المقاتلين المحليين إلى شرطة عسكرية محلية لضبط السلاح وحصره في القوى الأمنية، ولا يتاح لقوات النظام الدخول إلى درعا البلد، مع عدم استبعاد خروج بعض القوات إلى محافظة إدلب لإرضاء النظام.
و في حال تمت هذه التسوية، فمن المحتمل أن تدعمها الأطراف الإقليمية والدولية، بصفتها الخيار الأنسب لكل الأطراف، ومن المحتمل أن يقبل بها النظام، لاسيما في ظل مطالبة بعض الأطراف، من بينها الأمم المتحدة و فرنسا، بوقف العمليات العسكرية.

الخاتمة
تبقى سيناريوهات محافظة درعا مفتوحة على كل الاحتمالات في ظل التعقيد الكبير، مع الأخذ بعين الاعتبار المتغير الروسي الفاعل في هذه المعادلة، حيث تحاول روسيا أن تلعب دور الوسيط بين الأطراف مع ميلها إلى النظام السوري.
ذلك الدور يأتي بالتزامن مع خشيتها خسارة نقاط القوة التي أحرزتها و رفعت بها رصيدها، عقب النفوذ الذي تحقق لها في محافظة درعا، وعقب تأسيسها قوات عسكرية تابعة لها “الفيلق الخامس”، وهو مكسب تستأثر به ولا تود أن تشارك به غيرها أو تخضعه للمحاصصة مع إيران منافسها التقليدي في سوريا.
أما المعارضة السورية فهي تدرك كل تلك المتغيرات، وعليه فإنها تحاول أن تتحرك ضمن الهامش المتاح لها بالقدر الذي يمكنها من فرض مزيد من الشروط.
وعلى أية حال، فإن احتمال استقرار هذه المحافظة منوط بإنجاز العملية السياسية في سوريا ، حتى وإن توصلت الأطراف إلى تسوية محلية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: