الاستدارة التركية، دوافعُ وأسباب ومآلات
أولاً: تركيا و تحدّيات الواقع
بدايةً أرى من المفيد أن أذكِّر ببعض النقاط المهمّة المتعلّقة بتركيا والتي يمكن أن نأخذ من خلالها فكرةً عن الأولويات التركية في القضية السورية، ومن تلك النقاط ما يأتي:
١- الرئيس التركي أردوغان هو رئيسٌ لتركيا، وليس رئيساً لسوريا، وهذا يعني أنّ مصلحةَ بلاده مقدّمةٌ على مصلحة الآخرين مهما كانت منزلتهم ومكانتهم ..
٢- أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته الكثيرُ من التحديات التي يمكن أن تعرقل مسيرته الانتخابية، ومنها:
أ- التحدياتُ الداخليةُ من أحزاب المعارضة التركية التي تسعي للإطاحة بالحكومة التركية( العدالة والتنمية)، والتي يمكن أن تعرقل كلّ جهود الحكومة وتعطل مشروعها وتعمل على هزيمتها في الانتخابات المقبلة ..
ب- التحدّياتُ الخارجيةُ التي لا تقلّ خطراً عن التحدّيات الداخلية، لأنها تتمثّلُ بدولٍ ذاتِ أهدافٍ وأجنداتٍ خاصةٍ، تعيش على تفتيت الأمم ودماء الشعوب واستنزاف خيرات الدول، مستخدمةً كلّ الأدوات والوسائل التي من شأنها الوصولُ إلى أهدافها ..
٣- لكلّ دولةٍ خصوصيّتها وقوانينها ومبادئها الخاصّة بها، ومن التجأ إليها كان عليه أن يراعي الخصوصيات ويحترم القوانين وينضبط ضمن القواعد والمبادئ لتلك الدولة، وتركيا مثالٌ لذلك، وقد استضافت ما يقارب الأربعة ملايين لاجئٍ سوريٍّ وقدّمت لهم ما تستطيع ضمن ظروفها الخاصة …
٤- ليس بالضرورة أن يكون أعداء الثورة السورية هم أعداءً لتركيا، والعكس صحيح أيضاً، وهذا يعني أنّنا كسوريين ليس لنا أن نلزم تركيا بعداوة أعدائنا وهم:(النظام السوري القاتل، وروسيا، وإيران، وحزب ال pkk، وداعش)، بينما أعداء تركيا هم: حزب (ال pkk )فقط، ومن حقّها أن تقاتلهم وتقضي عليهم وتحمي بلادها من كيدهم وشرورهم ..
٥- تتباين الدول في مواقفها تجاه غيرها حسب الواقع والحال والمصلحة، ولا يمكن لأيّ جهةٍ أن تفرض على غيرها تقديم المساعدة لها في وقتٍ استفردت فيه الأنانية الدولية و تواطأت فيه القوى الكبرى ضدّ الدول المستضعفة، ومن هنا فقد لا يستطيع أحدٌ أن يلوم أحداً من الدول التي تهرّبت من المساعدة والمساندة في وقتٍ قد لا تستطيع المواجهة مع الجهة القاتلة الظالمة …
ثانياً: تركيا والتغيير المفاجئ
يُعَدُّ موقف الدولة التركية من أفضل المواقف مع الثورة السورية إذا قِيسَ ببقية دول العالم …
فقد فتحت تركيا أبوابها أمام اللاجئين السوريين، وقدّمت لهم الكثير من المساعدات الإنسانية والإغاثية، فيما تخلّت أغلب الدول العربية عن واجباتها تجاه الشعب السوري، بل كان من بعض الدول العربية أن ضيّقت عليهم في أسباب حياتهم، وحاربتهم في أساسيات بقائهم، وهو للأسف ما لم يتوقّعه الشعب السوري من الدول العربية والإسلامية بعدما وقف معهم في محنهم التي اعترضت دولهم وألجأت شعوبهم إلى النزوح والشتات في بلاد العالم، ومنها إلى سوريا حيث فتح السوريون لهم أبوابَ بيوتهم ورفضوا أن يُسكنوهم في خيمٍ وشوادرَ لا تقي حرّاً ولا تردّ قرّاً، كما تقاسموا معهم لقمةَ العيش وشربةَ الماء حتى لا يُشعروهم بمرارة النزوح وآلامه إلى أن زالت عنهم الغُمَّةُ وانكشف عنهم الكرب …
لم تكن مواقف الدول العربية بالمواقف المرضية، إلا ما كان من موقف تركيا طيلة العقد الأول من الثورة، لكن الموقف بدأ بالتغيير شيئاً فشيئاً، وانعكس ذلك على اللاجئين في أغلب الولايات التركية …
شكّلت الاستدارة التركية في تعاملها مع السوريين صدمةً كبيرةً لم يجد السوريون لها تبريراً مقنعاً لأنفسهم، وما زاد من الصدمة تصريحاتُ بعض المسؤولين في الحكومة التي كانت تلمّح بالتقارب مع النظام السوريّ المجرم بدايةً، ثمّ تطورت إلى تصريحاتٍ واضحةٍ تدعو للتصالح معه متزامناً ذلك مع الضغط الشعبي والتعامل الحياتيّ والمعاشيّ مع السوريين وتتبُّعِ عثراتهم ومخالفاتهم ليُعمل على ترحيلهم مع عوائلهم …
ولعلّي أعرض شيئاً من مظاهر الضغط والتضييق في طبيعة التعامل مع السوريين من خلال النقاط التالية:
١- التضييق على الناس في تنقّلاتهم بين المحافظات من خلال طلب استخراج ما يسمّى: “أذن سفر “، الأمرُ الذي يشكّل عائقاً أمام العمال وأصحاب المهن والحِرَف في الوصول إلى أعمالهم وكسب عيشهم لكفاية أولادهم وأُسَرِهم ..
٢- عدم توظيف الكفاءات العلمية في الدوائر الرسمية مع قدرتها العلمية والفنية وامتلاكها لكلّ المقوّمات المطلوبة .
٣- تسريح المدرسين الذين تمّ استيعابهم وتوظيفهم كمترجمين في السنوات الأولى من الثورة تسريحاً تعسفياً من غير أسباب واضحة …
٤- استغلال العاملين في المهن والحرف والأعمال العامة والخاصة بالأجور الزهيدة وعدم دفعها أحياناً، مع عدم امتلاك الحقّ في تقديم الشكوى لاسترجاع الحق المُغتصب ..
٥- التحريض المستمر من بعض فئات الشعب التركي ممّن يوالون النظام الأسديّ المجرم، وممّن يرون أنّ المساعدات المالية (من صندوق الأمم المتحدة)، التي يحصل عليها اللاجئون، هي لهم،وهم أحقّ بها .
٦- تدهور الاقتصاد التركي وهبوط الليرة التركية أمام الدولار زاد من تحريض الأتراك على اللاجئين السوريين واعتبروهم سبباً في ذلك .
٧- رفع أجور البيوت على السوريين بشكلٍ كبيرٍ استغلالاً وتضييقاً عليهم مع إجبارهم على الدفع لستّة أشهرٍ أو سنةٍ مسبقاً ..
٨- عدم امتلاك السوريين لحقّ الدفاع عن أنفسهم بما يحميهم من عمليات النصب المادي والابتزاز المالي والأخلاقي .
٩- العنصرية الواضحة في التعامل مع السوريين في كلّ المجالات الحياتية فضلاً عن الدوائر الحكومية الرسمية والخاصة والتميّز بينهم وبين الأتراك في النظرة والسلوك والعلاقات .
١٠- انقسام المجتمع التركي حيال النظرة إلى السوريين إلى قسمين: قسمٍ موالٍ لحكومة العدالة والتنمية، وهؤلاء مع السوريين، ووقفوا معهم في كلّ مراحل الثورة،
وقسمٍ معارضٍ لحكومة العدالة والتنمية، وهؤلاء ناصبوا السوريين العداءَ و استهدفوهم بالضرر والأذى وكلّ أشكال الضغط الجسدي والنفسي وكانوا سبباً في قتل الكثير من السوريين حقداً عليهم وكرها بحكومة بلادهم …
وما زاد من تلك الحالة طولُ فترة الثورة وعدمُ التجانس التام بين السوريين والأتراك، فضلاً عن بعض التصرفات التي كانت تصدر من بعض السوريين والتي كانت تُفَسَّرُ استفزازاً للاتراك في بلدهم وضمن مجتمعاتهم …
كلّ هذه الأمور كانت بمثابةِ أسبابٍ داخليةٍ ضمن الدولة التركية، لكنّ الأسباب الخارجية كانت أكثرَ تأثيراً وأسرعَ تطبيقاً على أرض الواقع، تبعاً للمتغيّرات المتسارعة على الساحة الدولية..
إذ يبدو أنّ المتغيرات الإقليمية والدولية التي طفت على الساحة الدولية سارعت في إعادة النظر عند بعض الدول وخاصةً تركيا التي ترى الدعمَ الأمريكيّ المفتوح لقوات قسد والتي تعتبرها أنقرة العدوَّ الأول، فضلاً عن زيادة التموضع الأمريكي في مناطق النفط من شمال شرق سوريا، إضافةً إلى التجاهل الأمريكيّ لدعوات تركيا في ردّ عدوان قوات قسد المتكررة ومنعها من شنّ عمليةٍ عسكريةٍ عليها ..
كان هذا دافعاً لتركيا لتنحاز إلى روسيا التي تعتبر الوصيَّ الشرعيَّ للنظام السوري وصاحبة القرار الفعلي في سوريا …
يساعد تركيا في ذلك وضعُ روسيا الصعبُ في حربها في أوكرانيا والذي كان لأمريكا دورٌ كبيرٌ في إقحامها وتوريطها في الوحل الأوكراني، والضغط منها على دول الاتحاد الأوروبي ودول الناتو بتقديم الدعم العسكري المفتوح لأوكرانيا من أجل زيادة إنهاك روسيا وتقليم أظافرها ….
في هذا الوضع الصعب الذي يعانيه الرئيس الروسي بوتين ومع عدم وجود مخرجٍ له على المدى المنظور وانسداد أفق الحلول أمامه كان الموقف التركي مساعداً له ومراعياً لظروفه، كما هو حاله مع الطرف الآخر “أوكرانيا” أيضا …
ولذلك يسعى الرئيس التركي أردوغان لاستغلال هذه الفرصة في استلام الملف السوري من روسيا والوصول إلى حُلول للقضية السورية وقضية الحزب الانفصالي الكردي ال pkk, والذي قد يكون التقارب مع النظام الأسديّ بوابةً لذلك حسب ظنّه .
ثالثاً: متغيّراتُ المسار التركي في القضية السورية
١- بدأ الدور التركي منذ بداية الثورة من خلال دعوة النظام الأسدي إلى القيام بإصلاحاتٍ جذريةٍ في بنية الدولة ومؤسساتها، والسماع لمطالب الشعب السوري في مطالبه المحقّة، ثمّ إلى دعم المعارضة التي انحازت إلى تركيا بعد تعنّتِ النظام ورفضه لأي شكلٍ من أشكال الإصلاح، حيث فتحتْ حكومة العدالة والتنمية أبوابَ دولتها أمام الشعب السوري الثائر، واحتضنتْ المعارضةَ السياسيةَ ودعمتها لإسقاط النظام الأسديّ القاتل، ثمّ استطاعت تركيا أن تلعب دوراً فاعلاً في المسار العسكري للثورة السورية حفاظاً على أمنها القوميّ من إجرام الحزب الكرديّ الانفصاليّ من جهةٍ، والقضاء على داعش من جهةٍ أخرى، فكانت معاركُ درع الفرات التي وضعت تركيا فيها ثقلها العسكريّ، وتتابع ذلك في معركة غصن الزيتون وتطهيرها من حزب ال pkk الإرهابي، ثمّ معركة نبع السلام وتحرير منطقتي رأس العين وتل أبيض، وبقيت تركيا حريصةً على تطهير كامل حدودها التي تبلغ أكثر من ٩٠٠ كم مع سوريا، وهو ما يستجلب لها من تهديداتٍ أمنيةٍ وعملياتٍ تخريبيةٍ وإرهابيةٍ مباشرة، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة مع سوريا باعتبار الأخيرة بوابةً لتركيا إلى دول العالم العربي على مختلف الأصعدة وكافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والتجارية ..
إلا أنّ التحديات الدولية أمامها كانت أكبر من أن تحقّق ذلك، وخاصةً في ظلِّ التداخل الدولي في مناطق الشمال والشمال الشرقي لسوريا المقسّمة بين روسيا الراعيةِ للنظام السوري، وأمريكا الراعيةِ لقوّات قسد والحزب الكردي الانفصالي pkk ، الأمرُ الذي دفع أردوغان للعمل على اختيار الطرف الأنسب الذي يمكن أن يحقّق له مصالحه …
وأمام الواقع العالميّ في الوقت الراهن كان الطرفُ الأمريكيُّ يمثّل القطبَ الأوحدَ في العالم من حيث القوة وفرض القرار لكنّه لم يراعِ المصالح التركية وحماية أمنها وحدودها فكان الانحياز التركي لجانب الطرف الروسي، لا سيّما أنّ روسيا هي الفاعلُ الرئيسيُّ في القرار السوريّ، وهو ما قد يكون بوابةً للدخول في المفاوضات التركية السورية بعد انقطاعٍ لأكثرَ من عشرِ سنواتٍ بين البلدين .
٢- كما من الواضح أنّ الانتخابات الرئاسية التركية باتت ترخي بثقلها على القضية السورية بين حزب العدالة والتنمية الحاكم من جهة، وبين المعارضة بأطيافها من جهةٍ أخرى، والتي تسعى بكلِّ ما تستطيع للإطاحة به مستغلةً عدةَ أوراقٍ ضدّه، من أهمّها ورقةُ اللاجئين السوريين الذي شكّلوا عبئاً كبيراً على تركيا وكانوا سبباً مباشراً في انهيار الاقتصاد التركي والهبوط الكبير في الليرة التركية أمام العملات العالمية الأخرى حسب زعم المعارضة، الأمرُ الذي دفع حكومةَ العدالة والتنمية للعمل على سحب البساط من تحت المعارضة التركية في إدعاءاتها وذلك من خلال وضع آلياتٍ مناسبةٍ لإعادة اللاجئين ورسم خارطة طريقٍ تضمن سلامتهم ضمن ظروفٍ آمنةٍ، وفي الوقت المناسب، ولا يكون ذلك إلا من خلال التقارب مع النظام السوري حسب زعم حكومة العدالة والتنمية ..
٣- خلال السنوات الماضية من حكم الرئيس أردوغان تصاعدت النبرات الخلافية بين تركيا وبعض الدول والتي نتج عنها انعكاساتٌ سلبيةٌ على السياسات الخارجية لتركيا، ومهّدت بدورها إلى عدّة انقلاباتٍ مدعومةٍ من ذات الدول، الأمرُ الذي جعل من حكومة العدالة والتنمية المقبلة على انتخاباتٍ رئاسيةٍ مفصليةٍ أن تعيد حساباتها وتقوم بمراجعاتٍ جديةٍ تقتضي تصفير المشاكل مع الدول التي من شأنها التأثيرُ على نتائج الانتخابات بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، بل وتوثيق العلاقات مع تلك الدول ومدّ جسور التعاون والتبادل التجاري وإقامة المشاريع التجارية والاقتصادية والاستثمارية للدول في تركيا، ومن تلك الدول كانت: إسرائيل، والإمارات العربية، والسعودية، ومصر ..
٤- ترغب روسيا بالتقارب بين النظام السوريّ الأسديّ مع تركيا لتقطع الطريق أمام الولايات المتحدة الأمريكية في استجلاب واستقطاب تركيا لحلفها، وخاصةً مع التجاهل الأمريكي للمطالب التركية في كبح جماح قوات قسد وعناصر ال pkk، وبنفس الوقت كانت حاجةُ النظام السوري للانفتاح على تركيا حاجةً ملحّةً لإعادة السيطرة على المناطق المحررة حسب ظنّه، وفتح طريق “m4, و m5”، إلى باب الهوى أيضاً، وكذلك فكّ الحصار الدولي عنه وعن بعض قيادته ولو جزئياً، وذلك من خلال الدور التركي الذي يمكن أن تقوم به تركيا مقابل إزاحة قوات قسد من المناطق المتاخمة لها، وتعديل اتفاقية أضنة إلى ٣٢ كم بدلاً من ٥ كم كشريطٍ أمنيٍّ على الحدود التركية السورية، الأمرُ الذي ليس باستطاعة النظام السوري المتهالك أن يؤدّيه لأنّه لا يملك السيطرة على قوات قسد التي تعمل تحت رعاية الأمريكان …
هذا الواقع المعقّد جعل من المنطقة المحررة عقدةَ الصراع والتنافس الدولي بين أمريكا وروسيا، علماً أنّ الوضع العالمي يُنبي بتحكّم القرار الأمريكي على معظم دول العالم فيما تحاول تركيا اللعب بين القطبين بما يتناسب مع المرحلة الحرجة التي تعيشها وتنتظرها، بينما يبقى الشعبّ السوريُّ الحرُّ ضحيّةَ التنافس الدولي ولقمةً سائغةً تلوكها تلك الدول بين أنيابها ريثما حقّقت مصالحها الخاصّة وضمنتها للمرحلة المستقبلية ..
رابعاً: السيناريوهات والمآلات المحتملة
١- التوافق الكامل بين تركيا والنظام
وذلك لحاجة الطرفين إلى ذلك بعد سنوات القطيعة، فالنظام السوري يريد الخروج من عزلته وتركيا تريد تصفير مشاكلها مع كلّ الدول قبل انتخاباتها الرئاسية،
لكنّ السؤال الذي يحتاج الى إجابةٍ، هو:
هل النظامُ صاحبُ قرارٍ في ذلك أم أنّ القرار الأمريكي سيحول دون الوصول إلى هذا التوافق تخريباً وتعطيلا للمشروع الروسي …
٢- التوافق الجزئي
قد لا يتمّ التوافق على كلّ نقاط الخلاف بين النظامين السوري والتركي، لكنّ طبيعة المرحلة وصعوبة التحديات تفرض اتفاقاً جزئياً على بعض النقاط المهمة(كالأمور الأمنية)، وتجميد نقاط الخلاف فترةً زمنيةً ريثما يتمّ دراستها والتوافق عليها في مرحلةٍ لاحقةٍ، منها على سبيل المثال: (سحب القوات التركية من الأراضي السورية، والذي لن يتمّ الاستجابة لها إلا بمقابلٍ تفرضه أنقره) .
٣- فشل التوافق
قد لا يصل الطرفان إلى توافقٍ مع كثرة المسائل المختلف عليها، أمنيةً كانت أو سياسيةً، وخاصةً أنّ النظام السوري يعوِّل على هزيمة حكومة العدالة والتنمية في الانتخابات وصعود المعارضة الداعمة لنظامه، وهو ما قد يدفع أنقرة للقيام بعمليةٍ عسكريةٍ تزيد من المساحة الجغرافية للمعارضة وتُنهي قوات قسد وحزب ال pkk الانفصالي، وهو ما لايريده النظام السوريّ بلا مقابل ..
أخيراً:
أمام تركيا أحد السيناريوهات الثلاثة في حلّ قضية الحزب الكردي الانفصالي مع وجود بعض الموانع أمامها، منها ما يمكن تجاوزه ومنها ما يكون سداً منيعاً في تجاوزه والتغلّب عليه ..
فهل تنجح تركيا باستلام الملف السوري من روسيا، وبالتالي ستقضي على عدوّها الأول المتمثّل بحزب ال pkk وقوات قسد، أم أنّها ستصطدم بالجدار الأمريكي الذي يحمي الحزب الكردي الانفصالي ليجعل منه عرّاباً له، وخنجراً في المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية المتاخمة لتركيا في الوقت الذي لن يستطيع النظام السوريّ أن يأخذ قراراً بشأنه ولن يستطيع أن يقدّم لتركيا ما تحمي حدودها وتحفظ أمنها ..
خامساً: ال pkk، هدفٌ مشتركٌ مع اختلافٍ في الأولويات
يحاول الرئيس التركيّ التوافقَ بين الامريكان والروس للوصول إلى مصلحة بلاده،مستغلاً مصالحهم عند تركيا، إذ لكلٍّ منهم مصالحه الاستراتيجية مع تركيا في المرحلة المقبلة، كما له مصالحه مع كلٍّ منهم في حربه على الحزب الكردي الانفصالي ال pkk، وقوات قسد، وإبعادهم عن حدوده مسافة ٣٠ كم، وهو نفس الأمر الذي يشترك فيه السوريون مع تركيا والاستفادة منه في القضاء على هذا التنظيم الإرهابي، وذلك للأسباب التالية:
١- الميليشيات الكردية الانفصالية pyd و قسد تسعى بكلّ الطرق والوسائل للوصول إلى مشروعها الانفصالي()، حيث تحتل ما نسبته ربع مساحة سوريا تقريباً من الأراضي العربية التي ليس لهم أيُّ حقٍّ فيها، فضلاً عن سعيها لخنق سوريا وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي، وجعلها محاصرةً تحتاج لأدنى مقوّمات الدولة .
٢- تسيطر الميليشيات الكردية الانفصالية على ثلثي الثروات النفطية والأراضي الزراعية والمائية والحيوانية، بما تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، وكلّها مُغتصَبةٌ من حقّ الشعب السوري .
٣- الممارسات العدوانية الممنهجة من الميليشيات الكردية في المناطق التي احتلها من أهلها من العرب والسريان والتركمان والآشوريين وحتى من الأكراد المناهضين لهم والمتمثّلة بسياسة القمع والتضييق والتهجير القسري …
٤- لعبت الميليشيات الكردية الانفصالية على كلّ حبال المكر والخديعة والخيانة من خلال التواصل مع كافة الجهات التي تمكّنها من مشروعها الانفصالي ولو حساب دماء الشعب السوري، فعملت مع روسيا من جهةٍ، ومع أمريكا من جهةٍ ثانيةٍ، ومع إسرائيل من جهةٍ ثالثةٍ، ومع النظام السوريّ القاتل من جهةٍ رابعة، ومع إيران من جهة خامسة، وتوافقتْ معهم ضدّ مصلحة الشعب السوري صاحب الأرض والقضية ..
٥- مثّلتِ الميليشياتُ الكردية من خلال مشروعها الانفصالي العداوةَ بكلّ معانيها، فكانت خنجراً مسموماً في خاصرة الأكراد السنّة وخلق العداء بينهم وبين بقية الشعب السوري، وهذا ما وصلت إليه على أرض الواقع .
ومن خلال النقاط السابقة نرى ضرورة القضاء على هذا الحزب الانفصالي بكلّ فروعه، وهو ما شكّل أولويةً عند تركيا التي عانت منه منذ لأكثر من ثلاثة عقودٍ مضت، وما زالت تعاني من إجرامه، فيما يرى السوريون أولويةَ القضاء على النظام السوري القاتل، الذي كان وما زال مصدر الخطر والإرهاب بكلّ أشكاله وأصنافه، فهو من صنع هذا الحزب ليكون ذراعه التخريبي والتدميري في المنطقة، وهو من مكّنه ودعمه بالمال والسلاح والمعلومات، ومن هنا فإنّه بالقضاء على النظام السوريّ الأسديّ وإسقاطه سيكون القضاءُ على تنظيم ال pkk وفروعه تحصيلَ حاصلٍ وسيسقط تباعاً دون إراقة دماءٍ ولا إزهاق أرواح ..
سادساً: أردوغان بين المرابح والخسران
قد يكون الرئيسُ أردوغان يلعبُ لعبةً سياسيّةً في توجُّهِهِ الذي لا يُخفيه، بل أكثرَ من ترديده والتّصريحِ به لجهة التّقاربِ مع اللانظامِ اللاسوريّ المجرم.
وقد تكونُ تصريحاتُه هذه من باب المراوغةِ والتّكاذبِ الذي لا تنفكُّ السّياسةُ تعتمدُهُ أسلوباً ومنهاجاً.
لكن قد يكونُ أردوغانُ أيضاً يرى أنّ الظّروفَ الدّاخليّةَ والخارجيّة تتطلّبُ منه أن يسلكَ هذا السبيلَ إلى نهاياتِهِ، وبالتالي يكونُ مؤمناً بأنّ هذا التّوجّهَ هو الذي يحقّقُ له المرابحَ الانتخابيّةَ، ويجعلُه وازناً في قبّانِ الاصطفاف الدّوليّ الحاليّ.
ومهما تكن تلكَ المرابحُ التي سيجنيها الرئيس أردوغان في مسعاه هذا كبيرةً، فإنّها تُقابِلُ خساراتٍ أيضاً كبيرةً، فهو لا يمدُّ يدَهُ إلى منظومةِ حكمٍ عاديّةٍ عندها بعضُ الفسادِ أو القليلُ من الإجرام كغيرها.
بل يمدُّ يده إلى ملِكِ المخدّراتِ في العالمِ، وإلى أكبرِ سفّاحٍ عرفته البشريّةُ في هذا القرنِ.
يمدُ يدَه إلى من كانَ يتناولُه إلى عهدٍ قريبٍ في خطاباتِه بالشّتيمةِ والتّقريعِ والتّحقيرِ، ويتوعّدُهُ بالويلِ والثّبورِ وعظائمِ الأمور، وإلى من جعلَه رافعةً لرصيدِهِ لدى الشّعوبِ المسلمة التي اعتبرت أردوغانَ زعيمَ المشروعِ الإسلاميّ الأوحدَ، ومطلقَ صفّارةِ النّهضةِ للأمّةِ من سُباتِها.
فكل خطابٍ كان يفقعُهُ أردوغانُ ويصرخُ فيه سابًّا هذه العصابةَ كانَ يزيدُ من رصيدِ أردوغانَ وحزبِه لدى الجماهير، حتّى إنّ الكثيرين ممّن كانوا يكفّرونَ أردوغان، تراجعوا عن ذلك وراحوا يُثنونَ على مشروعِهِ الواعد.
فكيف سيبرّرُ الرئيس التّركيّ مواقفَه الأخيرةَ أمامَ هذه الشّعوبِ التي عادَ أكثرُها ينازعُهُ الشّكُّ في صدقيّةِ هذا الرّجل؟!
وكم تساوي المرابحُ التي يرجوها أردوغانُ من خطّتهِ الجديدةِ أمام الخسائرِ التي سيُمنى بها، والتي لن تقفَ عندَه، بل سترتدُّ حتماً على كلّ مشروعٍ ذي صبغةٍ إسلاميّةٍ في السّنينَ المقبلة؟!”
سابعاً: تقدير موقف
كانت تركيا على علاقةٍ جيدةٍ مع النظام السوريّ قبيل انطلاقة الثورة السورية، وكانت تراهن على سقوط النظام في أشهر الثورة الأولى بعدما تعنّتَ في الاستجابة لمطالب الشعب المحقّة، ففتحت أبوابها للشعب السوري، واحتضنت المعارضة السياسية ورعتها، كما دعمت المعارضة العسكرية بما تستطيع، لكنّها؛ لم يكن بحسبانها أن تتعقّد القضية السورية وتصل إلى حدٍّ تتشابك فيه التدخلات الدولية، حيث أهدرت الكثير من الفرص التي كانت بإمكانها أن تحلَّ مشكلتها مع الحزب الكردي الانفصالي، لتتحوّل القضية السورية عبئاً عليها، وحملاً ثقيلاً تَمَثّلَ من خلال الأمور التالية:
١- المشروع الكرديّ الانفصاليّ المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية وتمركزه على بقعةٍ جغرافيةٍ مهمةٍ وغنيةٍ بالثروات النفطية، متاخمةٍ للحدود التركية مشكّلةً تهديداتٍ أمنيةٍ وإرهابية ..
٢- مشروع داعش الذي تحرّكه بعض الدول الكبرى الفاعلة في الوقت الذي تريد، والذي كلّف الأتراك والمعارضة السورية الآلاف من الدماء والأشلاء، ويبدو أنه سيظهر من جديدٍ ويخرج من البادية السورية ثانيةً بعد سنواتٍ من القضاء عليه ..
٣- مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا والتي باتت تقضُّ مضاجع الأتراك وخاصةً المعارضةَ الذين يستخدمونها كورقةٍ رابحةٍ في الانتخابات ضدّ حكومة العدالة والتنمية .
٤- المنطقة الآمنة (درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام)، والتي لم تنجح تركيا في إدارتها بما يحقق الأمن والاستقرار ويجعل منها نموذجاً جيداً يشجع اللاجئين للرجوع إلى بلدهم ..
٥- كان المأمول من تشكيل مسار أستانا الذي تواقفت عليه كلٌّ من روسيا وتركيا وإيران أن يضع حلاً عادلاً للقضية السورية حسب زعم تلك الدول، لكنّه وبعد سنواتٍ لم يقدّم سوى الوعود الفارغة والمماطلة المتواصلة لتمييع القضية السورية وضياع حقوق السوريين المهجّرين …
كلّ هذه الأمور انقلبت عبئاً على الحكومة التركية، وانعكست سلباً عند السوريين الذين كانوا يعتبرونها الراعيةَ لقضيتهم، وزاد من ذلك الفشلُ في إدارة المناطق المحررة من قِبل الأتراك، والذي زاد من النظرة السلبية أكثر،على العكس لما كانت نظرتهم في السنوات السابقة …
وفي الختام
لا أحد ينكر الموقف التركي تجاه الثورة السورية في العقد الأول من الثورة، والذي كان السوريون ينتظرون المزيدَ من الدعم التركي ومتابعة المسيرة الثورية حتى القضاء على النظام الأسديّ القاتل، مع الإيمان الكامل لحقّ تركيا فيما تراه مناسباً لمصلحتها الخاصة، بعيداً عمّا يُلحق الضرر بالثورة السورية والسوريين، علماً أنّ ما يجمع الأتراك السوريين من عوامل الأخوّة في العقيدة والتاريخ والمصير أكبر بكثيرٍ ممّا قد يحول بينهم ويودي بهم إلى خسارة بعضهم بعضاً في وقتٍ هم بأمسِّ الحاجة للتكاتف والتآلف والوحدة، وخاصةً عندما تعلو أصوات النّخب والعلماء والمفكّرين من السوريين فيما يرونه من حقّهم على إخوانهم الأتراك ليسمعوا منهم و يشاوروهم فيما فيه مصلحة للطرفين التركي والسوري الحرّ …
إعداد: عمر حذيفة
لتحميل المقال كاملاً:
الاستدارة التركية، دوافعُ وأسباب ومآلات