“ورقة تحليلية جيوسياسية في قضية ‘الممر الأوسط’ ودور الفاعل التركي”
تمثل السكة الحديدية التي تمر عبر العاصمة الأذربيجانية “باكو”، مسار النقل البري الوحيد بين الشرق والغرب، ويطلق عليها اسم “الممر الأوسط”، المؤهل بدوره لشحن بضائع الصين وآسيا الوسطى إلى أوروبا، والذي بات يمثل “ثورةً في التجارة العالمية”، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وتعطّل سلاسل التوريد ونقص السلع الغذائية ورفع أسعار السلع.
ويمتدّ الممر الأوسط من الصين، مرورًا بكازاخستان، وقيرغيزستان وأوزبكستان، وتركمانستان ليعبر بحر قزوين وصولًا إلى أذربيجان وجورجيا قبل أن يتصل بأوروبا عبر السكك الحديدية والموانئ التركية الواقعة عند نقطة التقاء الجغرافية التي تربط أوروبا، وروسيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، ويعتبر أقصر طريق بري بين آسيا وأوروبا.
ويختصر عند ربطه بخط سكة حديد باكو – تبليسي – قارص (التركية) الطريق بمسافة 7,000 كيلومتر، ما يعني انخفاض في أوقات الشحن من شهرين إلى أسبوعين، كما سيرتفع عدد الركاب من مليون شخص إلى ثلاثة ملايين شخص، ويزيد حجم البضائع المنقولة من 6 ملايين إلى 15 مليون طن.
ولابد من الحديث عن دور تركيا الفاعل في نجاح هذا الممر، توافقًا مع مصالحها الجيوسياسية، ورغبةً منها باستغلال الفرص متى سنحت أمامها، حيث سعت إلى التكامل مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، كما أدى المشروع لتعميق العلاقات الثنائية بين البلدين “تركيا _ الصين”، حيث تم الاتفاق على تنسيق مشروعات البنية التحتية في البلدين منذ عام 2015.
ويعمل البلدان على إتمام مشروع خط سكة حديد “باكو-تبليسي-قارص” الذي افتُتِح عام 2017 ليحل محل السكك الحديدية السوفيتية التي تمر عبر أرمينيا، كما زادت تركيا حجم استثماراتها في البنية التحتية للموانئ، مشيرةً إلى زيادة الاستثمار الصيني في موانئها لإتمام المشروع.
كما يعزز الممر خطة أنقرة لتصبح مركزًا للشحن بالحاويات بين الصين والاتحاد الأوروبي، إضافًة لتميزها الأوروبي بفضل ممر الغاز الجنوبي خط الأنابيب الذي يمر عبر الأراضي التركية ليربط أذربيجان بإيطاليا مرورًا بجورجيا واليونان وألبانيا، ما يؤكده ازدياد أحجام الشحنات بالممر بمقدار ستة أضعاف عام 2022.
واستغلت أنقرة قوتها الناعمة لتحقيق المكاسب في آسيا الوسطى، فوقعت شراكات استراتيجية جديدة مع كازاخستان وأوزبكستان، ثم وسّعت نطاق مسؤوليات منظمة الدول التركية التي تضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان بالإضافة إلى تركمانستان والمجر كعضوين مراقبين.
كما ارتفع حجم التجارة الثنائية بين البلدين من مليار دولار عام 2001 إلى 36 مليار دولار في 2021، مع الإشارة إلى وجود أكثر من 1,200 شركة صينية داخل تركيا، ارتبطت بحجم استثمارات وصلت إلى 4 مليار دولار.
الممر الأوسط والذي كان بمثابة موضوع هامشي حتى وقتٍ قريب وذلك على صعيد شؤون الجغرافيا الاقتصادية لأوراسيا، إذ اعتبروا أن جمعه بين الشحن البحري والسكك الحديد يجعله بمثابة نموذج متعدد يفتقر إلى الكفاءة مقارنةً بممر السكة الحديد الشمالي المباشر في روسيا، علاوةً على أن دول آسيا الوسطى مثل كازاخستان كانت تخشى تداعيات تقويض النفوذ الروسي لهذا لم تكن هناك حركة كبيرة بطول الممر الأوسط قبيل الفترة الأخيرة.
في حين تنظر بكين من جانبٍ آخر، حيث يُتيح المشروع لبكين فرصة تنويع طرق التجارة لأن استقرارها السياسي والاقتصادي يعتمد على التجارة الدولية، في إطار سعيها لإنهاء المشروع عن طريق بناء سكة حديد من قارص إلى أدرنة على الجانب الأوروبي، كما يعد مصدرًا لتنويع محفظة بكين بمشروعاتها الجيواقتصادية، خصوصًا أنه يتفادى المرور بالمناطق عالية الخطورة مثل إيران وأفغانستان وروسيا ونقاط الاختناق مثل ملقا وسوندا ولومبوك.
وتعمل الدول المشاركة في الممر الأوسط على تقوية الاتصال فيما بينها بإضافة الموانئ والعبّارات والقطارات الجديدة، ووضع اللوائح والمعايير الفنية اللازمة لتطوير منظومة متكاملة لإدارة الجمارك والحدود، إضافةً لتمكين بعض الدول المشاركة كـ (أذربيجان وكازاخستان)، بتوسعة موانئها ومطاراتها وسككها الحديدية الجديدة، وزيادة أسطولها من سفن الشحن حتى تستوعب زيادة معدلات الشحن.
حيث بدأت بعض الدول باستخدام الممر فعليًا بواسطة شركات مثل ميرسك الدنماركية وNurminen Logistics الفنلندية وRail Brigde Cargo الهولندية وCEVA Logistics الفرنسية وADY Container وشركات صينية.
يعتمد “نجاح _ فشل” الممر الأوسط في بحر قزوين وعلى العلاقة بين (أذربيجان وكازاخستان)، إضافةً إلى أن موسكو وطهران لديهما حق الاعتراض على مشروع كهذا، لهذا من المرجح أن يظل الممر الأوسط عالقاً في نموذجه المتعدد.
بالإضافة إلى التعقيدات في تركمانستان وقيرغيزستان، بسبب بنيتهما التحتية المتهالكة، والغير جذابة نتيجة تعريفات الشحن المرتفعة، وحاجتها إلى التطوير والتكامل التنظيمي حتى يصبح هذا المسار عمليًا.
ويضاف لها تعقيدات الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان، حيث اقترح الساسة إعادة فتح خطوط السكك الحديدية التي يرجع تاريخها إلى الحقبة السوفيتية وإنهاء الحصار بالتعاون مع تركيا، لكن مخاوف أرمينيا بالتخلي عن مطالبها الإقليمية لصالح أذربيجان تعد حجر عثرة أمام نجاح المشروع، رغم أن هذه الخطوة قد ترفع إجمالي الناتج المحلي لبلادهم بمقدار الثلث في غضون عامين.
فيما تأتي المخاوف الإيرانية من النزعة الانفصالية داخل مناطقهم التي تهيمن عليها أغلبية عرقية آذرية تحمل اسم أذربيجان الإيرانية، عائقًا دون بناء خط سكة حديدية بطول ممر زنغزور وصولًا إلى نخجوان قد يعزل أرمينيا عن إيران، ولهذا تعارض طهران استخدام ممر زنغزور لأنه قد يُعزز نفوذ باكو بين الإيرانيين الأذربيجانيين.
أما بالنسبة لجورجيا فقد يعاني المسار الرئيسي من حزمة مشكلات خاصة إذ إن مخاوف التهميش من التجارة الإقليمية قد تدفع روسيا إلى استغلال حلفائها الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وقره باغ لتعكير صفو الأجواء بطول خط سكة حديد باكو-تبليسي-قارص.
في حين تخشى بكين أن يؤدي تركيز أنقرة على التكامل التركي إلى تفاقم النزعة الانفصالية بين الأويغور في سنجان الذين تسببت إساءة معاملتهم في اندلاع التوترات من قبل، لكن تحتل الأعمال التجارية مقعد الأولوية حيث تُعَدُّ الصين ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا.
وبالنسبة لقيرغيزستان، يشكك مشرعوها في أن السكة الحديد يمكنها أن تجلب المكاسب الاقتصادية للبلاد، في حين لا تخفي مخاوفها من أن هدف الصين الأساسي هو مجرد ربط مدينة كاشغر الصينية بأسواق مربحةٍ أكثر.
ويمكن اختصار الدور الروسي بمثابة المحفز على نجاح المشروع، حيث تأثرت جميع التدفقات التجارية بين روسيا وأوروبا، وتراجعت الشحنات عبر الممر الشمالي بنسبة 40%، كما دفعت العقوبات المرتبطة بضم روسيا للقرم دول آسيا الوسطى إلى محاولة الخروج من عباءة موسكو، لاعتبارها شريك غير موثوق بسبب أفعالها داخل أوكرانيا.
فمنذ بداية الحرب الأوكرانية جذب الممر الأوسط ثلث تجارة الممر الشمالي ومن المتوقع أن تزيد حصته بستة أضعاف في 2022مقارنةً بإحصاءات عام 2021أي ما يعادل 3.2 مليون طن من البضائع، كما أن مع وجود البنية التحتية الجديدة أدت إلى زيادة أحجام التجارة عبر الممر الأوسط في الزيادة لترتفع بنسبة 50% بين عامي 2020 و2021.
ونظرًا إلى أن “البراغماتية” هي السياسة القائمة في الوقت الراهن، فقد يستطيع الممر الأوسط أن يُحدث تحولًا في البنية الجغرافية والاقتصادية لمنطقة أوراسيا، إذ سيقرب الاتحاد الأوروبي إلى دول القوقاز ومنطقة آسيا الوسطى والصين مما سيعزز مكانة تركيا الإقليمية بالتبعية.
لكن نجاح المشروع سيعتمد بنسبةٍ كبيرة على غياب البدائل القابلة للنجاح، فضلًا عن أن غياب الاستقرار الجيوسياسي بطول الممر الأوسط وخاصةً من القوى الإقليمية التي ستخسر الكثير بسببه قد يؤدي إلى إضعاف جاذبيته.