هل الدولة الديمقراطية لا دينية بالضرورة؟
يُقَسّم الخبراء أنماط الحكم إلى ديمقراطيات وأوتوقراطيات وأرستقراطيات وثيوقراطيات وتكنوقراطيات وربما غيرها من الـ “قراطيات”. والديمقراطية تعني حرفياً حكم الشعب ولها تعريفات كثيرة منها: هي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة – إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين – في اقتراح، وتطوير، واستحداث القوانين. وقديما قال الرئيس الأميركي السابق أبراهام لينوكلن عن الديمقراطية: هي حكم الشعب من قِبَل الشعب ومن أجل الشعب ، وهو تعريف مثالي برّاق لكن التعريف الأقرب للواقع أنها حكم الأغلبية من الشعب سواء بشكل مباشر (تصويت الناخبين من الشعب) أو غير مباشر (بانتخاب ممثلين للشعب هم أعضاء البرلمان ، وهم يحكمون بقانون الأغلبية). والأمران المتفق عليهما فيما يتعلق بالديمقراطية هما: أن للديمقراطية أنواعا وأنماطا كثيرة ، وأنه لا توجد “ديمقراطية مثالية” على الأرض ولن تكون.
كثير من الشعوب التي تطالب بالديمقراطية تعبت من الانقلابات العسكرية وتسلط العسكر على السلطة بحجة إنهاء الفوضى أو الفساد ولكنهم في الحقيقة ينهون حرية الكلمة والعمل السياسي ثم غالباً لا يُنهون الفساد بل ينقلونه من شريحة لأخرى ، لذلك فغالبا ما تطالب به الثورات الشعبية هو الدولة الديمقراطية المدنية ، فإضافة تعبير “المدنية” هنا يأتي ليؤكد على رفض تدخل المؤسسة العسكرية في إدارة شؤون الدولة وتسلطهم على السلطات ومقاليد الأمور. ولكن تعبير “المدنية” يشمل أيضا رفض تدخل المؤسسات الأخرى وعلى الأخص المؤسسة الدينية ، هذا إن كان هناك مؤسسة دينية تشكّل مرجعية للأغلبية كما كان الحال في أوروبا في العصور الوسطى حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية بزعامة البابا تشكّل مرجعية ليست دينية فحسب بل أيضا سياسية وشاملة لكل شؤون الحياة ، وكذلك المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران والتي تختبئ وراء ستار ديمقراطي محكوم من قِبَلِ المؤسسة الدينية فلا يمكن لمرشح رئاسة أو أي منصبٍ مهمٍّ آخر أن يُقْبل ترشيحه ولا يمكن إقرار قانون حتى تباركه المؤسسة الدينية.
لحسن الحظ فالإسلام السني لا يملك تلك المرجعية المُجْمَع عليها: لا عالمياً ولا قُطْريّا رغم وجود مؤسسات دينية بارزة مثل الأزهر ورابطة العالم الإسلامي وجامعة الزيتونة (منظمة التعاون الإسلامي ليست بينها فهي منظمة سياسية وليست دينية) لكن هذه المؤسسات تتعرض نفسها للتجاذبات السياسية في الدول المضيفة لها وهي أصلا بحثية ودعوية وقراراتها ليست ملزمةً لأحد ، وليس لها أو لرئيسها أي “قداسة” أو عصمة أو ادعاء تمثيل إرادة الإله كما كانت الكنيسة الكاثوليكية تزعم وكذلك توحي المؤسسة الدينية الإيرانية إلى حدٍّ ما باعتبار المرشد الأعلى للثورة في إيران هو “نائب الإمام المعصوم”.
المشكلة أن بعضاً من الناس لهم تصور مختلف للدولة الدينية فهم يجعلونها نقيضاً للدولة العالمانية (أو العلمانية كما يحلو للبعض كتابتها أو اللائكية كما يقول إخواننا في المغرب العربي) حيث يتم فصل الدين عن الدولة تماما سواء في الحكم أو التشريع. المشكلة أيضاً أن أنماط الدولة العالمانية مختلفة فهناك الحيادي منها حيث تقف الدولة بمؤسساتها المختلفة على مسافة متساوية من كل الأديان فلا تحاربها ولكن لا تتبنى أحدها ، وهناك السلبي منها الذي يحظر الأديان ويحاربها ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن الدولة الديمقراطية المدنية ترتكز تشريعاتها أساساً على الدستور الذي تكتبه عادة لجنة برلمانية مختصة (اختير أعضاؤها ضمن البرلمان تعيينا أو انتخابا) ثم يتم إقراره ضمن البرلمان أولاً ثم بتصويت شعبي ثانيا وأخيرا. هذا الدستور يأتي مستمَدّاً من ثقافة الشعب رغم احتمال اقتباسه لبعض التشريعات من دساتير لدول أخرى لكن لا بد للدستور أن يكون مكتوبا لبيئته المحلية بثقافتها مناسباً لها ، والدين جزء أساسي من تلك الثقافة فلا يمكن عمليا فصل الدين تماما عن التشريع وبالتالي عن الدولة. استناد بعض فقرات الدستور إلى تشريع ديني لا يتنافى مع ديمقراطية أو مدنية الدولة فالدستور – مهما كانت جذوره واستناداته – لا بد وأن يتم إقراره من خلال آليات الديمقراطية ، كما أن هذه الفقرات لا تعطي أي هيمنة أو سلطة للمؤسسات الدينية ولا تؤثر على مدنية الدولة فالدستور – مهما كانت جذوره واستناداته – لا بد وأن يتم إقراره من خلال آليات الديمقراطية ، كما أن هذه الفقرات لا تعطي أي هيمنة أو سلطة للمؤسسات الدينية ولا تؤثر على مدنية الدولة. ففي أميركا – وهي دولة ديمقراطية علمانية – هناك إشارات دينية في الدستور كما تطبع عبارة (بالله نثق) على كل ورقة نقدية كما تفتتح جلسات الكونغرس وغيرها من التجمعات الحكومية غالبا بالدعاء إلى الله رغم التأكيد على عدم انحياز تلك الصلاة (أو الدعاء) لدين محدد.
لابد من ملاحظة أن الدستور يشمل أموراً كثيرة يقف الدين حياديا منها أو قد يكون للدين مجرد ضوابط عامة كالعدل والمحافظة على حقوق الخلق بما في ذلك البيئة كما أن للدولة الأخذ برأي شرعي دون رأيٍ آخر ، على سبيل المثال اختلف علماء الشرع حول كون الشورى مُعْلِمة أم ملزمة فيمكن أن تُقِرّ الدولة قانوناً يجعل إقرار الأغلبية في البرلمان (أي الشورى) ملزم. أما قوانين الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث) فيمكن أن تكون للمسلمين فقط ولا تُلزم المكونات غير المسلمة إلا لمن قبلها مختارا. وقانون العقوبات (الحدود) يمكن أن يُدْرَس من قِبَل لجنة قانونية وشرعية كي يكون ملائما للزمان والمكان ضمن ضوابط الشريعة ، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كثيراً مما يعتقده العامة أنه مسلّمات شرعية ليس بمسلمات بل قد يحتاج أيضا لدراسة لجنة شرعية مختصة ، وتكون الدولة حرة في أخذ أيّ من الآراء الشرعية المعتمدة فيما فيه مصلحة الأمة والحرص على مقاصد الشريعة أولاً.
لذلك لا أرى مشكلة في مزاوجة ديمقراطية ومدنية الدولة مع الإسلام ، ولا أرى معارضةً إلا من متطرفي الجهتين: الدينيين واللادينيين ، فالفئة الأولى تُصِرّ على فرض رؤية ونمط معينين على الشعب بغض النظر عن الانتخابات والاستفتاءات وآليات الشورى (أو الديمقراطية) والفئة الثانية تريد سلخ الدين بكل تفاصيله وتشريعاته من الدولة واتباع تشريعاتٍ مستوردة من بيئات مختلفة أو الهوى الشخصي أيضا بغض النظر عن رأي الأغلبية وآليات الديمقراطية. كذلك أرى أن تستقل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة وهذا لا يعني الانفصال التام بل لا بد من وجود علاقة بينهما ولكن ليس علاقة هيمنة من إحداهما على الأخرى وإلا فستفسد المؤسسةُ المهيمِنة المؤسسةَ المهيمَنَ عليها. خذ مثلا مؤسسة الأزهر في مصر: وقفت مستقلة قوية شامخة لقرونٍ من الزمن: لها أوقافها التي تدر عليها ميزانيتها ، ويقوم أعضاؤها بانتخاب شيخ الأزهر دون تدخل خارجي: رسمي أو شعبي ، وكانت علاقتها بالدولة علاقة استشارة ورقابة ، ويذكر التاريخ مواقف رائعة لشيخ الأزهر في الوقوف أمام قرارات الحاكم… حتى تم ضم الأزهر لملاك الدولة في عهد جمال عبد الناصر فصار شيخ الأزهر موظفاً يعيّنه رئيس الجمهورية فأدى ذلك إلى إضعاف الأزهر بل إفساده. وخلافاً لما يعتقده بعض الإسلاميين فهذا الفصل ليس إقصاءً للدين عن الدولة بل هو إعطاء المؤسسات الدينية استقلالها واحترامها ودورها الصحيح في الرقابة والتوعية.
برأيي فالوضع الذي أتمناه لسورية الحديثة (وغيرها من الدول) هو نظام ديمقراطي مدني يؤمّن الحرية والكرامة والعدالة والمساواة لكل المواطنين دون تفريق أو تفاضل ديني أو طائفي أو عرقي أو مناطقي أو غير ذلك. وربما يتكون في بداية عهد الحرية عدد كبير من الأحزاب التي قد تكون مبنيّة على أساس فكري (إيديولوجي) أو عرقي أو ديني أو عشائري أو مجرد برنامج عمل. شخصياً لا أحبّذ تشكيل الأحزاب على أساس عرقي أو ديني أو طائفي أو عشائري لأنها تمثل عقلية القطيع أي الولاء والاتباع حسب انتماءٍ خلقتُ ضمنه ولم أختره. بل أفضّل الأحزاب المرتكزة على أمرين: فكر (إيديولوجيا) وبرنامج عمل بحيث يمكن أن تستقطب المواطنين من شتى الانتماءات ، لكني لن أؤيد أي منعٍ أو حظرٍ على الأحزاب الأخرى. ولهذا السبب أحبّذ أيضاً أن يخلع عالم الدين (أو من له صفة دينية) لباسه الديني إن قرر أن يخوض غمار السياسة رغم أن الساحة السياسية ليست محظورة على أحد لكن المظهر الديني للسياسي قد يوحي لبعض الناس بالقداسة ، والظن بأن آرائه السياسية تمثّل الدين وبذلك قد يرى بعضهم أن اتباعه أمرٌ شرعي ومخالفته عصيان لله. كما أن الكثيرين يرون أن السياسة يعتريها أمور “غير نظيفة” فالأولى ألا يمارسها من يحمل صفةً دينية كي لا يسيء للدين الذي يمثّله إلا حين يخلع رداءه الديني ، ويبقى هذا رأيي الخاص الذي لا ألزم به الآخرين.
وهنا أقول للمتطرفين الدينيين واللادينيين الذين يريدون فرض الإسلامية أو العلمانية على الدولة مسبقا وقبل استفتاء الشعب: إن كانت أفكاركم مقبولة لدى الأغلبية من الشعب فلماذا تخافون من المنافسة؟ لماذا لا تكون لكم نفس حقوق الآخرين من المواطنين المخالفين لآرائكم ثم نحتكم لصناديق الاقتراع ونترك الشعب يقرر بأغلبيته؟ ولعل أهم مزية للديمقراطية أن وصول حزب أو مرشح لسدّة الحكم لا يعني أبداً البقاء فيها بل إن التجديد مرهون بالإنجاز والاستقامة (القويّ الأمين) ، فالشعب الذي أوصل ذلك الحزب أو المرشح لسدّة الحكم له القدرة على عزله واستبداله.
رابط الندوة كاملة على اليوتيوب: