مفهوم المواطنة ودوره في بناء دولة القانون
كثر الكلام عن مفهوم المواطنة ودولة الدستور بعد اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 م على الاستبداد والظلم والاقصاء الذي مورس على الشعوب فكان لابد من إعادة تهيئة هذا المفهوم عربياً وإسلامياً مع مفهومه في أوربا الذي تطور على مدار القرون الثلاث الماضية من جهة، ومن جهة أخرى فالمواطنة في كل حقبة تاريخية إنما كانت تُعبر عن التركيبة الثقافية والأخلاقية لتلك الحقبة، ومن ثم كانت المؤثر على مدى تَحقُقِ المثل الأخلاقية والسياسية في زمانها.
ولابد من التنويه إلى أن من أخطر ما تصاب به المجتمعات هو انخفاض ‘معنى الوطنية’ لدى أبنائها؛ الأمر الذي يعني فقدان حيوية الأمة ووهن إرادتها وانخفاض مستوى الطموح الحضاري؛ ومن ثم فإن ضعف الشعور الوطني والخلل في بنية قيم المواطنة يعد من أخطر القضايا التي تهدد الشباب -أعز ما تملكه مجتمعاتنا من ثروات- لما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الانتماء وإدارة العمل والإنجاز، واضطراب المعايير والرؤية حول مكانة الشباب في صناعة المستقبل والإسهام التنموي.
وتكمن أهمية المواطنة في ظل التطور السياسي والتحول الديمقراطي، إذ لا يمكن أن تتم عملية الإصلاح من غير تعزيز مفاهيم المواطنة التي يقوم على أساسها إحقاق كافة الحقوق للأفراد، باعتبارهم مشاركين في بناء الدولة، وحماية القانون العام فيها.
وإن أتينا لنعرّف ونشرح مفهوم المواطنة فنقول: المواطنة تعني أشياء قليلة محددة من جملتها أن أبناء الوطن الواحد هم سواسية في الحقوق وفي الواجبات أمام القانون، فالمواطنة تعني أن الجميع شركاء في الوطن، ولكل فرد بأي مكان في الوطن حق في الإقامة وحق في التنقل وحق في الاستثمار والعمل كما لأي مواطن آخر، نفس الحق بنفس المكان.
كما أن المواطنة تعني المشاركة الحقيقية في تحمل أعباء الوطن، وتعني أيضاً المشاركة في تنمية الوطن، وتعني أيضاً المشاركة في الاستفادة من خيراته الظاهرة والباطنة والمتوقعة.
يرى كثير من الباحثين أن الإسلام هو من أسس لفكرة دولة المواطنة ويستدلون على هذا بوثيقة المدينة المنورة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حين جاء إلى المدينة كان فيها مسلمون، وكان فيها وثنيون مشركون، وكان فيها يهود وكان فيها قبائل متناحرة وقبائل متحالفة، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة تنظم العلاقة بين سكان المدينة المنورة، هذه المواد بلغت في تفصيلاتها اثنتين وخمسين مادة، وفيها تفاصيل كثيرة ولكن هذه المواد تتمحور بشكل عام حول ما يمكن أن نسميه عبقرية المكان، عبقرية المدينة في أن الناس الذين يعيشون في المدينة عليهم أن يحسنوا جوار بعضهم بعضا، ويتحملوا بعضهم بعضا عليهم أن يحسنوا إلى بعضهم بعضا، وأن يدفعوا عن المدينة كل شخص يهاجم المدينة سواء هاجم اليهود أو المسلمين فإنه يعد مهاجما لأهل المدينة فهي عبارة عن وثيقة دفاع مشترك عن أهل المدينة ومقدراتها وسيادتها.
كما أن هذه الوثيقة تقوم على أساس المكان فهؤلاء الناس بينهم تباينات كثيرة في الأعراق وفي الأخلاق وفي الدين وفي الرؤية وفي المصلحة!
ولكن جمعهم مكان واحد ولهذا المكان حق أن يخدموه وحق أن يدافعوا عنه.
بعض الباحثين المتأخرين أكد على أن هذه الوثيقة تصلح لأن تكون أساساً فعلاً لدولة المواطنة وبهذا يكون الإسلام قد سبق العالم بأكثر من عشرة قرون في تأسيسه لفكرة المواطنة.
ونظراً لأهمية الدور المحوري للقادة والمفكرين وتأثيرهم فإنه يقع عليهم مسؤولية كبرى في تعزيز المواطنة، لاشك أن نضوج هذه الفكرة وقبولها والعمل عليها يثير عددا من الإشكالات الفقهية وقد حاول البعض من علماء الدستور وعلماء المقاصد وعلماء السياسة الشرعية في العصر الأخير التنظير لدولة المواطنة بناء على وثيقة المدينة وحاولوا حل بعض الإشكالات الفقهية التي تتعلق بذلك.
ختاماً:
الوطنية سلوك عملي يظهر في أقوالنا وأفعالنا وعلى قادة الفكر أن يسعوا لتحسين ممارساته ويستشعرون دورهم ومسؤوليتهم في تنمية المواطنة لمواجهة تحديات الهوية الثقافية.
كما لن يعذر قادة الفكر في تخليهم عن أدوارهم وهم يرون الأمة ودول الجوار تمر بمنعطفات خطيرة في عصر الثورات العربية والتغيير، فدورهم عظيم وتأثيرهم في الأجيال جسيم فهم يمتلكون سلاح الكلمة وسحر التأثير وصلاحية النفوذ، وضع فيهم المجتمع ثقته ودفع لهم فلذة كبده ومهجة روحه..وإن عليهم أن يستحضروا ويعوا ذلك جيدا.