ندوة بحثية بعنوان ” ديمقراطية غير علمانية “
استضاف مركز مسارات للحوار والتنمية السياسية، محاضرةً بعنوان ” ديمقراطية غير علمانية ” يقدمها الدكتور محمد المختار الشنقيطي:
يتناول الدكتور الشنقيطي موضوع المحاضرة بالتركيز على عدة نقاط وهي:
1. الاختلاف بين الأديان في بنيتها ونموذجها التأسيسي، فهناك ديانات الحد الأعلى وديانات الحد الأدنى.
2. التنبيه إلى الخصوصية الإسلامية باعتبار أن الإسلام كما قال ابن تيمية: ” شريعة عدلٍ وفضل “، فهي تبني الضمائر وتستعمل سلطة القانون، فتجمع ما بين العنصر الأخلاقي والعنصر القانوني.
ويستخلص الدكتور مما تقدم إلى أن العلمانية سنةٌ في المسيحية وبدعةٌ في الإسلام، مع الإشارة إلى حضور الدين في الدساتير المعاصرة بدراسة أجراها الدكتور للمواد الدستورية لــ 190 دولة.
3. العلاقة بين حقوق الأقليات وحقوق الأكثريات، حيث يكثر الكلام عن حقوق الأولى بينما تهمش حقوق الأخيرة، وهو ما يقود إلى ظاهرة يسميها الدكتور الشنقيطي: ” الأقليات المدللة والأكثريات المغفلة “.
ثم يتوصل الدكتور إلى النتيجة المنطقية النهائية للمحاضرة وهي: الانفكاك بين مفهوم الديمقراطية والعلمانية.
ويستهل الدكتور الشنقيطي حديثه بمجموعة من الاقتباسات المهمة والتي تؤسس لغاية ونتيجة المحاضرة، وهي:
– قول ابن خلدون في مقدمته: ” العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثرٍ عظيم من الدين على الجملة “.
– اقتباس للفقيه السياسي الفرنسي ألكسز تودوكفل: ” إن الاستبداد ممكن من غير إيمان، أما الحرية فلا “.
– اقتباس للجابري يقول فيه: ” مسألة العلمانية في العالم العربي مسألةٌ مزيفة، وفي رأيي أنه يجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي، وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية “.
ثم يشرع الدكتور في الحديث عن الموضوعات والنقاط المذكورة بالتفصيل وأهم ما ذكر:
هناك التباس عام في العالم العربي في الخلط بين فكرة العلمانية وفكرة الديمقراطية، علماً أن مجلة الإيكونمست البريطانية في مؤشرها العالمي للديمقراطية في عام 2020 تضع السويد والنرويج وآيسلندا في المراتب الثلاث الأولى للدول الأكثر ديمقراطية عالمياً، وهذه الدول الثلاث تنص في دساتيرها على الديانة المسيحية الإنجيلية اللوثرية ديانةً رسمية للدولة.
الأديان تتفاوت في بنيتها التأسيسية، فبوذا مثلاً بدأ سياسياً ثم انفصل عن السياسة ومال إلى العزلة والنكفاء على الذات بعد بدء دعوته وديانته، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخرجه الإسلام من حالة العزلة الاجتماعية وألقاه في معمعة الحياة ومن ثم ميادين السياسة بعد نزول الوحي. بينما جاء المسيح عليه السلام برسالة وعظية وقدم مواعظ ووصايا جميلة وأخلاقية، لكن دعوته لم تحمل في طياتها جانباً تشريعياً أو سياسياً.
وتختلف الأديان في سياق الميلاد، وذلك من حكمة الله تعالى، فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، فالمسيح عليه السلام بعث داخل دولة قائمة وهي الإمبراطورية الرومانية التي كانت تملك قوانين وتشريعات خاصة بها مازال بعضها يطبق إلى العصور الحديثة في المجتمعات المسيحية، فلا وجود لفراغ سياسي وقانوني في البيئة التي نشأت فيها دعوة عيسى عليه السلام، ولذلك لا تحتوي المسيحية على قانون ناظم للدولة والمجتمع، ولذلك فقياس المسيحية مع الإسلام هو قياس مع الفارق لاختلاف سياق النشأة والتطور، لأن النموذج التأسيسي الإسلامي كان قائماً منذ البداية على الدمج بين الروح والمادة وبين السيف والمصحف وبين الدين والسياسة.
ولكن رغم أن المسيحية والبوذية في أصلهما ليستا ديانتين سياسيتين، إذا نزلنا إلى الأرض وإلى التطبيقات الدستورية المعاصرة نرى حضوراً مكثفاً للديانتين في دساتير الشعوب والدول التي تعتنقها، وذلك لتأثير الدين على ثقافة الناس فهو يصل للتأثير على المؤسسات السياسية والدستورية.
واستعرض الدكتور من دراساته وأبحاثه التي أجراها، الكثير من الدول المسيحية البروتستانتية في شمال أوروبا، والدول المسيحية الكاثوليكية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ودول مسيحية أرثوذكسية في شرق أوروبا، تنص كلها في دساتيرها على المسيحية كديانة رسمية للدولة، واعتراف بمرجعية الدين التراثية والقيمية والأخلاقية، والإقرار بكونه مصدر شرعية للحكم والحاكم، رغم أن معظم هذه الدول ديمقراطية ! وهذا يكشف محاولات الاستغفال التي تقوم بها النخب العلمانية في المجتمعات العربية.
كما استعرض الدكتور الشنقيطي بعض الدول الآسيوية الديمقراطية التي تنص في دساتيرها على الديانة البوذية كديانة رسمية، أو كديانة معترف بها، أو اعتراف بأهمية تعاليم بوذا وحث الدولة على حمايتها ونشرها، كسيرلانكا وكمبوديا وتايلند وبوتان.
وإذا نظرنا إلى العالم العربي فإننا سنجد أن هناك تقاليد سياسية معروفة في الدول العربية – باستثناء لبنان لتركيبته المخصوصة – منذ بداية القرن العشرين، وهذه التقاليد تنص على أن الإسلام دين رسمي للدولة، ومرجعية للتشريع، فلم يكن ذلك موضوع نقاش لعقود طويلة، ولكن ظهر الآن من يريد أن يتحداها بحجة أن العالم تجاوز قضية الدين وعلاقته مع الدولة والدستور.
وتتفرع عن هذا الفهم الخاطئ والنظرة المغلوطة لعلاقة الدين مع الدولة في العالم العربي، مشكلة التوفيق بين حقوق الأقليات وحقوق الأكثريات، ولا شك أن صراع الشعوب العربية من أجل العدل والحرية هو صراع للجميع وفي صالح الأكثريات والأقليات معاً، وإن أسوء ما تفعله أي أقلية هو أن تعتبر الأكثرية عدواً لها، وأن ديانة الأكثرية ستحرمها من حقوقها السياسية والمدنية، خصوصاص في المنطقة العربية التي كانت ومازالت فسيفساء دينية منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وقد كان الإسلام حامياً لهذا التنوع الديني والعقائدي وليس مستأصلاً لها بشهادة الكثير من المؤرخين والمستشرقين.
بسبب الهزة التي تمر بها المجتمعات العربية بعد الربيع العربي، فقد فرضت علينا حربان هما حرب الحرية (على مستوى الفرد) وحرب الهوية (على مستوى المجتمع)، فهناك من يحارب حريتنا وهناك من يحارب هويتنا، ولا يمكن فك الارتباط بين الحربين، فقد ترى بعض الأطراف التي تناصر وتدعم حرية الشعوب العربية ولكنها تحارب هويتها وتعمل على تغييرها كبعض العلمانيين مثلاً، وبعضها قد يصادق تلك الشعوب بالهوية ولكنه يريد فرض الاستبداد عليها كأغلب المستبدين في منطقتنا العربية.
إن إنصاف الأقليات غير المسلمة في الدول العربية والإسلامية واجبٌ إسلامي وأخلاقيٌ وإنساني، وإن بيننا وبينهم أرحام وروابط تتمثل بالدم والجغرافيا والتاريخ وغيرها، بالإضافة إلى أن الظلم لا مكانة له في الإسلام أصلاً.
ولكن لا يتحقق إنصاف الأقليات دون إنصاف الأكثريات، ومن إنصاف الأكثريات احترام خيارها وإرادتها في البناء الدستوري والسياسي المنسجم مع منظورها القيمي والثقافي دون أن تظلم الأقليات وتهضم حقوقها. ومعظم الدول الديمقراطية المعاصرة في العالم الغربي والدول غير الإسلامية، تلعب الأكثرية دوراً كبيراً ومحورياً في تحديد هوية الشعب والدولة دستورياً وقانونياً.
وتجدر الإشارة إلى أنه في أوروبا الكاثوليكية (الجنوبية)، والتي تمحورت حول التجربة الفرنسية، ظهر صراع حقيقي بين المسيحية والدولة أو بين الكنيسة والدولة، وذلك لأن الكنيسة في تلك الدول إما منافسة للدولة أو حليفة لها ولملوكها، ولكن هذا الصراع لم يظهر في الدول البروتستانتية كبريطانيا مثلاً.
والولايات المتحدة الأمريكية كنموذج، فإن دستورها لا ينص على كلمة العلمانية نهائياً، لكنه ينص على عدم أحقية الحكومة الفيدرالية أن تتبنى ديناً رسمياً، ولا أن يسن الكونغرس قانوناً يفرض فيه ديانة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية، ولا قانوناً يقيد فيه الحرية الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين يحق لكل ولاية أن تحدد مذهباً دينياً رسمياً (أحد مذاهب الدين المسيحي)، ولم يختف هذا التقليد السياسي في دستور كل ولاية إلا مع منتصف القرن العشرين. كما أن وثيقة الاستقلال الأمريكية التي تعتبر وثيقة دستورية وتأسيسة هامة جداً، تنظر إلى حقوق الإنسان على أنها منحة إلهية وليست حقوق طبيعية.
والخلاصة هي عدم وجود أي ارتباط منطقي أو تاريخي بين العلمانية والديمقراطية.
ولكن فبشكل عام يقع الإشكال في دولنا العربية في أن العلمانيين والقوى الدولية الحريصة على التحكم السياسي في المنطقة العربية يعرفون أن مزيداً من الديمقراطية يعني مزيداً من الإسلام، وأنه كلما اتسعت مساحة الحرية زاد معها حضور التدين والإسلام في الشأن العام، ولذلك بدأوا بالربط بين الديمقراطية والعلمانية.