الدراسات والبحوث

الجمود والأفق المسدود في تسوية الأزمة السورية

منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، وما تلاها من صراعات داخلية انقسمت سوريا إلى ثلاث مناطق سيطرة رئيسية: مناطق النظام، والمعارضة المدعومة من تركيا، ومناطق السيطرة الكردية، وعلى المدى القريب من غير المُرجَّح أن يستعيد النظام السوري ما تبقى من المناطق خارج سيطرته.

• ما زالت القوى الخارجية (روسيا وتركيا وإيران) هي الجهات الفاعلة الرئيسية على الأراضي السورية، نظراً لوجودها على الأرض وتأثيرها على حلفائها.
• الدبلوماسية متعثرة وأقرب إلى الجمود بسبب عدم موافقة حكومة الأسد على عملية انتقالٍ سياسي، ومن غير المُرجَّح أن يتغيَّر هذا الوضع في المدى المنظور، خاصةً في ظل عدم تفاهم روسيا والولايات المتحدة على استراتيجية تسوية للأزمة في سوريا.
• من المستبعد أن تتوفر قريباً أموال إعادة إعمار دولية وأوروبية، في حين ستؤدي العقوبات الأمريكية، إلى استمرار الصعوبات التي يواجهها النظام السوري في مناطق سيطرته وزيادة التدهور الاقتصادي والانهيار الحاد للعملة.
• أفضت استراتيجية حكومة الأسد في مشروع “المصالحات” إلى عزل وإجبار غالبية مناطق البلاد التي تسيطر عليها المعارضة على الاستسلام، مع استمرار بعض الحوادث الأمنية لاسيما في محافظة درعا. لكن الاستثناء الأبرز المتبقي هو مناطق الحماية التركية في الشمال وشمال غرب سوريا، حيث الضمانات التركية لهذه المناطق باستمرار بقائها -على الأرجح- إلى أن يتم التوصل إلى تسوية عامة للحرب.

نهاية مفتوحة للصراع السوري

لا تظهر نهاية وشيكة للصراع الممتد منذ أكثر من عشر سنوات داخل سوريا. في حين أن الوضع الميداني والمصالح الدولية المتنافِسة يؤكدان تعقّد جهود إنهاء الحرب. فبعد عشر سنواتٍ من اندلاع الثورة في سوريا في مارس/آذار 2011، فشل بشَّار الأسد في توحيد سوريا تحت حكمه، أو في إعادة البلاد إلى وضعها الذي كانت عليه قبل الثورة السورية من حكمٍ مستبد وقوي. وما زالت تتعرَّض المناطق السورية المختلفة للتقويض من قِبَلِ قوى خارجية متنوعة ومليشيات منخرطة في الصراعات المتداخلة على الأراضي السورية.

ورغم العديد من العمليات السياسية والدبلوماسية الجارية لإنهاء الصراع، لم يظهر حتى الآن سوى تقدُّمٍ ضئيل. والأهم في هذا الصدد هو عملية “أستانا”، التي انطلقت في يناير/كانون الثاني 2017، والتي تجمع إيران وتركيا برعايةٍ روسية، وتسعى إلى تهميش الولايات المتحدة وإخضاع جميع جبهات الحرب لعمليةٍ دبلوماسيةٍ واحدة تديرها روسيا. بالنسبة لموسكو، فإن هذا له ميزة إضفاء الطابع المؤسَّسي على علاقتها الوثيقة بتركيا. لكن أبعد من ذلك، لم تحرز عملية “أستانا” سوى القليل من التقدُّم الجوهري، نظراً للأهداف التي لا يمكن التوفيق بينها من الناحية الاستراتيجية لأنقرة وطهران في سوريا، حيث تلتزم إيران بإعادة توحيد سوريا تحت الرئاسة “الاسمية” للأسد، بينما تظلُّ تركيا ملتزمةً بقضية المجموعات المعارضة للنظام والتي هي في غالبيتها من العرب السُنَّة بالإضافة للتركمان وبعض المجموعات الكردية. ويحتفظ كلا البلدين بمناطق سيطرة فعلية في سوريا (تركيا في الشمال وإيران في العاصمة والوسط).

بالتوازي، يُشرف المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، على عمل اللجنة الدستورية السورية المُكوَّنة من 150 عضواً، والتي تضم ممثِّلين عن الحكومة والمعارضة لإجراء محادثاتٍ تهدف إلى صياغة دستور جديد. وعلى الرغم من أن لدى اللجنة تفويضٌ من الأمم المتحدة لصياغة دستور جديد يُمهِّد الطريق لإجراء انتخابات، إلا أن تمسك الأسد بالحفاظ على المعالم الأساسية لحكمه من جهة، ومطالبة ممثِّلي المعارضة والمبعوث الخاص بعملية انتقال سياسي من جهة أخرى، تمنع أيَّة إمكانية لإحراز تقدُّمٍ جوهري في الوقت الراهن.

لذلك، ما يزال الموقف يتشكَّل بواسطة الجمود الدبلوماسي والعسكري القائم على واقع من الأزمة الاقتصادية، وانهيار العملة، والتضخُّم المرتفع. ولا يزال تنظيم الدولة (داعش) موجوداً أيضاً في البلاد، ويشكِّل تهديداً أمنياً متواصلاً بعدما أعاد تنظيم نفسه، خاصة مع ما يتمتَّع به من قاعدة دعم في الجنوب السوري.

مناطق السيطرة الثلاث

في الوقت الراهن، هناك ثلاث مناطق سيطرة سياسية أو عسكرية رئيسية في سوريا، وهي:

أولاً، حكومة النظام، وهي تسيطر على ما يقرب من 60% من الأراضي السورية، بما في ذلك العاصمة دمشق، وحلب التي تعتبر المركز التجاري الرئيسي، وساحل البحر المتوسط في سوريا بأكمله، وجميع عواصم المحافظات باستثناء ثلاث منها (مع بقاء الحسكة وإدلب والرقة خارج سيطرة الحكومة). وتمارس الحكومة سيطرتها من خلال ما يعرف بـ”الجيش العربي السوري”.

ثانياً، السيطرة الكردية، حيث تخضع منطقة شرق الفرات في سوريا (نحو 30٪ من البلاد)، لسيطرة الإدارة الذاتية التي يهيمن عليها الأكراد في شماليّ وشرقيّ سوريا. ويشكّل “حزب الاتحاد الديمقراطي” و”وحدات حماية الشعب الكردي” الهيئتان الرئيسيَّتان لحكم هذه المنطقة (وهما على علاقة قوية وايدلوجية بحزب العمال الكردستاني). من جهتها، تتحالف وحدات حماية الشعب مع “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي التشكيل العسكري المدعوم من الولايات المتحدة والذي شارك في البداية بالحرب ضد تنظيم الدولة (داعش)، ويعتبر قائدها، اللواء مظلوم العبدي، الزعيم السياسي الرئيسي في منطقة الإدارة الذاتية في شماليّ وشرقيّ سوريا. ويذكر أن تلك المناطق تشكّل نقاط احتكاك وتنافس بين القوات الأمريكية والروسية، وتخضع لبروتوكولات أمنية وآليات فض اشتباك بين العسكريين الروس والأمريكيين.

ثالثاً، مناطق المعارضة المدعومة من تركيا، وهي عبارة عن جيبان يشكِّلان معاً قرابة 10% من أراضي سوريا في الشمال والشمال الغربي للبلاد، وتُدار رسمياً من خلال الحكومة الانتقالية السورية المتمركزة في بلدة إعزاز على الحدود التركية السورية، وتقع تحت السيطرة المفروضة فعلياً لتركيا.

علاوة على ذلك، تقع منطقةٌ مجاورة في جنوب محافظة إدلب تحت سيطرة جماعة “هيئة تحرير الشام” الإسلامية . وتحتفظ “الهيئة” بجهازٍ إداري يُعرَف باسم “حكومة الإنقاذ السورية”، تحكم من خلالها وفقاً لمعايير السلفية الجهادية. وأطلق النظام العديد من المبادرات لاستعادة إدلب، لم تفلح، ومن غير المُرجَّح أن يكون نجاحها وشيكاً. في غضون ذلك، عقد زعيم “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، لقاءاً مع مسؤولين في الاستخبارات البريطانية في يونيو/حزيران الماضي، جرى خلاله بحث إمكانية شطب “الهيئة” من قوائم الإرهاب.

وخارج المنطقة التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام”، نظَّمَت تركيا بقايا المعارضة العربية السنية في “الجيش الوطني السوري”، الذي يبلغ قوامه 70 ألف جندي تحت السيطرة التركية. والمسؤول عن الإدارة هي المجالس المحلية المرتبطة بالجيش الوطني السوري، والمدعومة مباشرةً من الحكومة التركية. وتحتفظ تركيا بوجودٍ عسكري قوامه من 12 إلى 20 ألف جندي في هذه المنطقة. وتحيط المواقع التركية بالمنطقة الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام، مِمَّا يحول دون قيام جيش النظام السوري بشنِّ هجومٍ عليها.

المشروعان الإيراني والروسي في سوريا

اعتمد النظام السوري في بقائه خلال الحرب منذ عام 2015 على دعم إيران وروسيا، والذي توافق مع المصلحة المشتركة للبلدين في الحفاظ على حكومة الأسد. ومع ذلك فإن لروسيا وإيران نظرتان مختلفتان بشأن مستقبل سوريا، وحالة الأزمة فيما بعد الحرب.

فالجهود العسكرية والدبلوماسية الروسية تهدف إلى استعادة سيطرة الحكومة على كامل الأراضي السورية، وتطبيع موقف الحكومة مع المجتمع الدولي والهيئات الدولية، بما في ذلك جامعة الدول العربية. وفي هذا الصدد، تعمل روسيا والإمارات جنباً إلى جنب.

على النقيض من ذلك، لا تهتم إيران كثيراً بالوضع الرسمي لسوريا. ويشير تحليل السلوك الإيراني في العراق ولبنان إلى أنَّ إيران ربما تفضّل القيام بعملياتها ضمن نظام سياسي ضعيف ومتشظي جزئياً، وترغب في استخدام سوريا كجزء من هدفها الإقليمي الأوسع لإبراز نفوذها في منطقة الشام. وتُشكِّل سوريا بالنسبة لطهران حلقة وصل حيوية في منطقة نفوذها القريبة الممتدة من الحدود الإيرانية العراقية إلى البحر المتوسط وحدود لبنان و”إسرائيل”.

وضمن هذا السياق، يدَّعي المسؤولون “الإسرائيليون” بصورة متكررة أنَّهم منعوا تأسيس قدرة صاروخية مدعومة إيرانياً ومُوجَّهة ضد “إسرائيل” على الأراضي السورية. وبحسب تقرير نشرته صحيفة Haaretz العبرية في 13 أغسطس/آب 2020، فقد شنَّت “إسرائيل” أكثر من 1000 غارة منذ عام 2017 ضد الوجود الإيراني في سوريا. وركزَّت على المحاولات الإيرانية لنقل الأسلحة عبر الأراضي السورية إلى حزب الله في لبنان، وعلى المنشآت العسكرية الإيرانية الكبيرة مثل “قاعدة الإمام علي” قرب الحدود السورية العراقية و”قاعدة الكسوة” جنوبي دمشق. ومما لا شك فيه أن تلك الحملات الإسرائيلية قد حققت نجاحات ضد النشاط الإيراني، إلا أنَّ العمليات الجوية وحدها لا يمكنها هزيمة المشروع السياسي والعسكري الإيراني الموسع في سوريا.

مؤخراً بزرت مؤشرات اشتباك إضافية بين القوات الأمريكية والمليشيات التابعة لإيران، حيث شن سلاح الجو الأمريكي في يونيو/حزيران الماضي غارات استهدفت مقار كتائب “سيد الشهداء”، أحد أبرز الفصائل العراقية المدعومة إيرانياً داخل الأراضي السورية، فيما قصفت كتائب “أبو الفضل العباس”، قاعدة حقل العمر النفطي بريف دير الزور، التي تتمركز داخلها قوات التحالف الدولي.

تقاسم النفوذ الأمني بين إيران وروسيا

يمتد المشروعان الإيراني والروسي إلى القوى الأمنية الرسمية السورية، وهو ما يُعقِّد عملية التمييز بينهما. إذ أسس الحرس الثوري الإيراني، بمساعدة من حزب الله اللبناني، “قوات الدفاع الوطني” في عام 2012، على غرار قوة الباسيج شبه العسكرية التابعة للحرس الثوري، لسد الثغرة الموجودة في القوة البشرية لدى قوات المشاة التابعة للجيش السوري. ودرَّبت إيران هذه القوة التي تتألف إلى حدٍ كبير من سوريين علويين وشيعة.

بالإضافة إلى ذلك، ترتبط عناصر قوية ضمن قوات الأمن التابعة للدولة بشكل وثيق بهيكل القوة الإيراني في سوريا، أبرزها الفرقة الرابعة المدرعة –بقيادة اللواء الركن ماهر الأسد، الشقيق الأصغر للرئيس- والمخابرات الجوية، بقيادة اللواء غسان إسماعيل. كما تملك إيران نفوذاً في الحرس الجمهوري السوري. فقد أشرفت طهران على دمج القوات غير السورية التابعة للحرس الثوري في هياكل الجيش السوري، فأطلقت على سبيل المثال على “لواء أبو الفضل العباس” العراقي اسم “اللواء 105” التابع للحرس الجمهوري.

إضافة لذلك، فإن إيران وميليشياتها تسيطر على معبر أبو كمال الحدودي عند الطرف الجنوبي من الحدود الشرقية لسوريا مع العراق، وعلى الطريق من البوكمال إلى بلدة الميادين، وعلى المنطقة الممتدة من محافظة القنيطرة المتاخمة لمرتفعات الجولان المحتلة من “إسرائيل”، شمالاً إلى المنطقة الحدودية مع لبنان.

ومنذ العام 2012، نشرت إيران عناصر من الميليشيات التي أنشأها الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وتختلف تلك الميليشيات من حيث العدد بحسب الدور والاحتياج؛ وتشمل: حزب الله اللبناني، و”الفاطميين” الأفغان، و”الزينبيين” الباكستانيين، والميليشيات الشيعية العراقية، بما فيها كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وحركة حزب الله النجباء.

وتؤثر موسكو أيضاً على قوات الجيش السوري، لاسيما “الفيلق الخامس”، وهو مظلة جامعة مُدرَّبة ومُسلَّحة على يد أفراد روس وتتألف من مجموعة ألوية، بينهم ثوار سابقين. في حين يتمثَّل الوجود الروسي الفعلي، والأهم، في محافظة اللاذقية، ولا سيما في قاعدة حميميم الجوية وقاعد طرطوس البحرية.

ويعكس الانقسام في القوات الأمنية ضعف الدولة السورية بعد عقد من الصراع، إلى جانب تنافس المصالح بين طهران وموسكو.

اعتبارات الدور التركي

نجحت استراتيجية حكومة الأسد في مشروع “المصالحات” مع المعارضة منذ 2017 في عزل وإجبار غالبية مناطق البلاد التي تسيطر عليها المعارضة على الاستسلام، مع استمرار بعض الحوادث الأمنية لاسيما في محافظة درعا جنوبي البلاد. لكن الاستثناء الأبرز المتبقي هو مناطق الحماية التركية في الشمال الغربي والشمال الشرقي.

ويعود استمرار رعاية الحكومة التركية للفصائل المسلحة في شمال سوريا بالأساس إلى اعتبارين أساسيين:

الاعتبار الأول يتعلق بتأسيس سلطة كردية في منتصف 2012، في ثلاثة كانتونات (تقسيمات إدارية) على طول الحدود السورية مع تركيا (عفرين، والجزيرة، وكوباني)، وهو ما أثار احتمالية قيام كيان كردي مستقل وموحد بحكم الأمر الواقع على حدودها. ودفع هذا الأمر تصميم أنقرة على قيادة قوة مشتركة من المجموعات السورية المعارضة والقوات النظامية التركية ضد “وحدات حماية الشعب الكردية”، ولاحقاً ضد “قوات سوريا الديمقراطية”. ونجحت تركيا من خلال عملية “درع الفرات” في 2016-2017 في تقسيم كانتونيّ (كوباني وعفرين). ثُمَّ جرى تدمير كانتون “عفرين” وسيطرت عليه تركيا في عملية “غصن الزيتون” في مطلع عام 2018. ثم أدت بعد ذلك عملية “نبع السلام” في 2019 إلى دخول القوات التركية والمقاتلين الحلفاء إلى منطقة شرق الفرات وانتزاع المنطقة الواقعة من مدينة تل تمر إلى مدينة عين عيسى.

الاعتبار الثاني ينطلق من الدافع التركي في منع أي تدفق إضافي للاجئين إلى تركيا من مناطق المعارضة السورية، وهي ما يمكن أن يحدث في حال عاود النظام السوري السيطرة على هذه المناطق. ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة للاجئين في 11 مايو/أيار، استقبلت تركيا 3.7 مليون لاجئ سوري منذ بدء الصراع. ويعيش نحو ثلاثة ملايين نسمة في المناطق التي تسيطر عليها تركيا شمالي سوريا. ودعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى إعادة توطين مليون لاجئ في شمال سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن الاستثمارات التركية في المناطق السورية الخاضعة لسيطرتها كبيرة، إذ تمول تركيا خدمات الصحة والتعليم والشرطة، وجرى تقديم مناهج دراسية مُعدَّلة تتضمَّن دراسة اللغة التركية، وباتت تُشكِّل هذه المناطق بحكم الأمر الواقع (محمية تركية) في سوريا.

السيطرة الكردية

أَمَرَ الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” بسحب القوات الأمريكية من شرق سوريا مرتين، في ديسمبر/كانون الأول 2018 وأكتوبر/تشرين الأول 2019، معللا ذلك بنهاية الحرب ضد تنظيم “داعش” وبالتالي عدم وجود حاجة لبقاء هذه القوات.

لكن وفقاً لتقرير ورد بصحيفة LA Times الأمريكية في 12 مارس/آذار الماضي، ما يزال نحو 900 جندي أمريكي موجودين شرقي سوريا، وحضورهم يضمن استمرار بقاء لما يشبه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

وعلى عكس المناطق التي تسيطر عليها تركيا، يحتفظ جيش النظام بوجود في أجزاء من هذه المنطقة (مدن الحسكة، والقامشلي، وعلى طول أجزاء من الحدود والخط الفاصل مع القوات التركية). لكنَّ حكومة الأسد لم تحاول إعادة فرض السيطرة السياسية على مناطق شرق الفرات، غالبا لأنَّها أدركت عجزها عن ذلك حالياً.

لكنَّ ذلك لا يعني بأن النظام السوري ليس حريصاً على استعادة السيطرة على هذه المناطق، حيث أنها تضم 95% من احتياطيات النفط والغاز السورية، ونحو 70% من مخزون إنتاج القمح في البلاد، وموارد مائية كبيرة. وربما تُقدِّر دمشق أنَّ الوجود الأمريكي في سوريا لن يكون طويل الأجل، بالنظر إلى سعي واشنطن لتخفيف التزاماتها في الشرق الأوسط.

لكن ثمة متغيرات في الإدارة الأمريكية الجديدة، توحي بأن الانسحاب الأمريكي من شرق سوريا من المستبعد أن يكون وشيكاً؛ منها توجهات الرئيس “بايدن” الفاترة تجاه الدور التركي في سوريا، وعودة “بريت ماكغورك”، الذي كان وثيق الارتباط بسياسة التعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية خلال توليه منصب نائب المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي “أوباما” لمحاربة داعش، إلى منصب منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي.

عودة “داعش”

فَقَدَ تنظيم “داعش” ما تبقى من أراضٍ يسيطر عليها في سوريا في أواخر مارس/آذار 2019، لكنه زاد من نشاطه العنيف في سوريا والعراق عام 2020 بعد فترة أعاد فيها تنظيم نفسه. وأفاد مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في أغسطس/آب 2020 بأنَّ داعش لديه نحو 10 آلاف مقاتل في العراق وسوريا.

وتشير الأدلة إلى أنَّ داعش أسس معقلاً في البادية السورية، وهي صحراء شاسعة في وسط سوريا تخضع اسمياً لسيطرة النظام السوري. وعلى هذا النحو، فإنَّ السيطرة عليها أمر حيوي للحفاظ على خطوط الإمداد في أنحاء البلاد، إضافة لما تتضمنه من موارد كبيرة من الغاز الطبيعي. ويبدو أنَّ تنظيم داعش قد حدد بأنَّ تلك المنطقة تمثل نقطة ضعف للنظام، ونجح في نسج علاقات مع أفراد عشائر البادية مما زاد من منسوب هجماته المحلية، ونصب الكمائن الأسبوعية التي تُوقِع عشرات القتلى شهرياً.

وحاول داعش أيضاً السيطرة على منشآت النفط والغاز الطبيعي، فاستولى لفترة قصيرة على حقل غاز “الدوبيات” في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2020 قبل أن تعيد القوات الحكومية السيطرة عليه. وتتزامن الزيادة الحادة في النشاط الجوي الروسي منذ منتصف فبراير/شباط 2021 مع هذا النشاط المتنامي لداعش، مع التقدير بأن حراك التنظيم حتى الآن لا يشير إلى إمكانية حصول سيطرة وشيكة أو واسعة النطاق لداعش في سوريا.

استشراف المآل

ربما ساهم الوضع الاقتصادي وجائحة كوفيد-19 في تشكل حالة شبه الجمود الحالية لخطوط الجبهات والصراعات في سوريا، لكنَّ عوامل أخرى – دولية وليست داخلية – يُرجَّح أن تساهم في حالة الجمود هذه. وتشمل تلك العوامل رغبة روسيا في اجتذاب تركيا أكثر، والوجود العسكري التركي الكبير في المناطق الشمالية، والذي يجعل شن القوات السورية هجوماً أمراً مستبعداً في المدى المنظور. كما أنَّ إبقاء الولايات المتحدة على وجودها في شرق سوريا يجعل أي هجوم للحكومة السورية بدعم من روسيا شرقي الفرات غير ممكن.

إنَّ تصميم “الأسد” على منع أي انتقال سياسي يجعل تحقيق تقدم دبلوماسي حالياً غير ممكن، ما يعني أنَّ الديناميات الخارجية المتنوعة للصراع، الناجمة عن الانهيار الجزئي للدولة في سوريا منذ 2011، ستواصل الظهور على الأراضي السورية. إلى جانب تنظيم “داعش” الذي أحيا أنشطته بدعم من بعض العشائر في جنوب البلاد. وسيظل السيناريو الأكثر ترجيحاً لسوريا في السنة المقبلة على الأقل هو التقسيم بحكم الأمر الواقع، وتدخل القوى الخارجية، بالإضافة لاستمرار كل من الصراعات النشطة والمُجمَّدة جزئياً.

علاوة على ذلك، لن تتوفر قريباً أموال إعادة الإعمار الدولية والأوروبية، وستؤدي العقوبات الأمريكية القائمة والتي فُرِضَت مؤخرا في ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى استمرار الأزمات التي يواجهها النظام السوري في مناطق سيطرته، وإلى مزيد من التدهور الاقتصادي والانهيار الحاد للعملة.
أسباب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: