أسباب ومآلات الصراع القبلي في السودان
ملخص
● يعيد القتال في السودان إلى الواجهة دور القبائل العربية في منطقة الساحل، ويفتح الباب لاستعانة كل طرف بالأقارب والحلفاء من الدول المجاورة؛ إذ يقاتل العديد من أبنائها من تشاد وأفريقيا الوسطى ضمن قوات الدعم السريع، وهي ظاهرة ليست غريبة على صراعات المنطقة التي يلعب الولاء القبلي فيها عاملا حاسما يتجاوز الانتماء للدولة.
● بالإضافة للصراع الطويل في دارفور منذ عام 2003، انخرطت القبائل العربية والأفريقية في عدة نزاعات بوسط وغرب أفريقيا، بما في ذلك تشاد وأفريقيا الوسطى. تلك الأزمات المتشعبة، وافتقاد القبائل العربية في المنطقة لسلطة سياسية تعبر عنها، أنتجت شعورا بأن وجودها مهدد، مما أعطى فرصة سانحة يعمل “حميدتي” على الاستفادة منها عبر تقديم نفسه كممثل للعرب المهمشين في تلك المناطق، ما جعل العديد من أبناء القبائـل العربية في غرب السودان وتشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى، يطلقون عليه لقب “القائد”، ويقاتلون في صفوف قواته.
● إن السودان هي الدولة الأكبر من حيث عدد السكان وحجم القوات المسلحة في منطقة الساحل. ولذلك؛ يفتح انزلاقه إلى حرب أهلية الباب أمام فوضى طويلة الأمد تضرب الشريط الممتد من شرق أفريقيا إلى غربها. حيث يمثل القتال في السودان حلقة الوصل بين حروب منطقة الساحل من غرب إلى شرق القارة الأفريقية، ويفتح الباب لانخراط القبائل المحلية بقوة في تلك الصراعات التي تغذيها موجات الجفاف، وانتشار البطالة، والصراع على الموارد.
● لا تنفصل هذه الصراعات عن التنافس المحموم بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث يسعى كل طرف لتوظيف أطراف الصراع من أجل ترسيخ نفوذه في السودان بصورة خاصة ومنطقة الساحل بصورة عامة. كما أن تناقض مصالح الأطراف الإقليمية، العربية والأفريقية فضلا عن تركيا وإيران، يضيف المزيد من التعقيد ويجعل من المرجح إطالة أمد الحرب الأهلية الراهنة في السودان.
● إن الحدود المفتوحة لدول تشهد صراعات داخلية وانتشارا للسلاح، مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى والسودان، واشتعال صراعات في المحيط الأوسع في مالي ونيجيريا والنيجر وإثيوبيا والصومال، وحضور البعد القبلي والعرقي والجهوي في أغلب تلك النزاعات، بالتزامن مع انتشار الجفاف وزيادة التصحر والتغيرات المناخية، يعني أن القارة الأفريقية قد تكون مقبلة على صراعات هي الأكثر دموية في العصر الحديث.
مقدمة
أجج اندلاع القتال في السودان في منتصف أبريل/نيسان الماضي بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع حالة الاضطراب التي تخيم على منطقة الساحل والصحراء الأفريقية، وهو ما يهدد بانعكاسات على الاستقرار الهش بالمنطقة التي تبدو كشريط أزمات يمتد من سواحل البحر الأحمر إلى ساحل المحيط الأطلسي.
- لعقود سابقة، هيمن على النظام الأمني في المنطقة أضلاع ثلاث: “معمر القذافي” في ليبيا (1969-2011)، “عمر البشير” في السودان (1989-2019)، و”إدريس ديبي” في تشاد (1990-2021). لكنّ هذا النظام تعرض للاضطراب مع اندلاع الثورة في ليبيا ومقتل “القذافي”، ثم عزل “البشير” ومقتل “ديبي” على يد المعارضة التشـادية، ووصل إلى أعتاب التشظي مع اندلاع القتال الأخير في السودان، وتزامنه مع تدهور الوضع الأمني في جمهورية أفريقيا الوسطى، وتنامي الهجمات المسلحة في مالي والنيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو وبحيرة تشاد، لأسباب متنوعة في مقدمتها الصراعات بين الرعاة والمزارعين، وأنشطة الجماعات المسلحة مثل بوكو حرام وفروع تنظيم داعش، والنزاعات بين الأعراق والقبائل على الموارد وطرق التجارة والتهريب، مثل العرب والزغاوة والفلان والهوسا والتبو والطوارق والداجو.
- أعاد القتال في السودان للواجهة دور القبائل العربية في منطقة الساحل وفتح الباب لاستعانة كل طرف بالأقارب والحلفاء من الدول المجاورة؛ إذ يقاتل العديد من أبنائها من تشاد وأفريقيا الوسطى ضمن قوات الدعم السريع، بينما دخل إقليم دارفور إلى نفق اقتتال تشترك فيه القبائل العربية التي تدعم “حميدتي” وقبائل أفريقية ساحلية والتي ينتمي لأحدها “ميني ميناوي” حاكم الإقليم، حيث ينتمي لقبيلة الزغاوة، وهي مجموعة عرقية مسلمة تعيش في شمال شرق تشاد، وغرب السودان خاصة دارفور.
القبيلة تتجاوز الحدود
- لا وجود للحدود في أذهان العرب الرحل؛ إذ يولد الشخص في بلد، ويعيش في بلد آخر، ويقاتل في بلد ثالث، فالولاء للقبيلة مقدم على الحدود الدولية المرسومة في عهد الاستعمار. ولذا نجد أن نحو 60% من مقاتلي “الجبهة المتحدة من أجل التغيير” التشـادية المتمردة الذين أسرهم الجيش التشـادي خلال هجومهم على العاصمة انجمينا عام 2006 يحملون الجنسية السودانية، كما أن بعضهم قاتلوا سابقا في أفريقيا الوسطى حيث أوصلوا الرئيس “بوزيزيه” إلى سدة الحكم في سنة 2003 قبل أن يتمردوا عليه، ويعودوا إلى تشاد بدعم من الخرطوم.
- كذلك قاتل 700 من عرب دارفور بقيادة “موسى عبد القاسم”، من قبيلة المحاميد، ضمن “تحالف سيليكا” ذي الأغلبية المسلمة في دولة أفريقيا الوسطى خلال الفترة 2012 – 2014 فيما تدخلت عناصر الدعم السريع من عرب المسيرية بغرب كردفان في القتال بجنوب السودان عام 2016 دعما لحلفائهم من قبيلة النوير في مواجهة حكومة سيلفا كير.
- كذلك شارك متمردو دارفـور في القتال بليبيا، حيث قاتل جيش تحرير السودان بقيادة “ميني ميناوي” (حاكم إقليم دارفور) في صف قوات “خليفة حفتر”، بينما قاتلت حركة العدل والمساواة ذات الميول الإسلامية، بقيادة “جبريل إبراهيم” وزير مالية السودان، بجوار خصوم “حفتر”، حيث نقلا قواتهما من جنوب السودان إلى ليبيا عبر أفريقيا الوسطى وتشـاد ودارفـور. وتوضح تلك الأمثلة أن تواجد عناصر من تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى ضمن قوات الدعم السريع، ليس بالأمر الجديد ولا الغريب على الصراعات في تلك المنطقة، التي يلعب الولاء القبلي فيها عاملا حاسما.
الساحل الأفريقي الملتهب
- يشمل الساحل الأفريقي المنطقة شبه القاحلة الممتدة بين الصحراء الكبرى في الشمال وحشائش السافانا في الجنوب، وتظهر كحزام فاصل بين دول شمال أفريقيا العربية من جهة، ودول أفريقيا الوسطى والجنوبية من جهة أخرى، ويضم بداخل هذا الشريط 5 دول أساسية هي موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، السودان. بالإضافة إلى أجزاء صغيرة من أقصى جنوب الجزائر وأقصى شمال بوركينا فاسو ونيجيريا والسنغال وجنوب السودان وإثيوبيا وشمال إريتريا. وتشير التقديرات إلى أن هذا الشريط أو الحزام الساحلي يقدر بحوالي 5500 كم وبعرض من 350 إلى 500 كم.
- تتسم أطراف حدود دول الساحل عادة بانحسار سلطة الدولة وسيادتها، وبروز الهويات العرقية والقبلية، وانتشار العديد من المجموعات الإثنية عبر الحدود، والاعتماد على التهريب كوسيلة لكسب الأموال بالتزامن مع اتساع الفساد بين ممثلي الدولة ذوي الحضور المحدود بالمنطقة. تغذي هي الأوضاع التوترات الاجتماعية وتؤدي إلى صراعات من أجل النفوذ والتحكم في طرق التهريب والسيطرة على الأراضي، مما يقود إلى صعود جماعات متمردة وانفصالية مسلحة فضلا عن عصابات قطاع الطرق ومليشيات محلية للدفاع عن النفس أو الموارد المحدودة.
- وفرت تلك الأوضاع بيئة خصبة للجماعات المسلحة العابرة للحدود، مثل بوكو حرام والقاعدة وتنظيم داعش، حيث توظف الفوضى بالمنطقة لتقديم الحماية للسكان، كما توفر القوة اللازمة لحل النزاعات المحلية عبر قضاء شرعي ناجز، وتنظم الوصول إلى الموارد في ظل غياب الدولة.
- خلال الآونة الأخيرة، انتشرت خريطة الصراعات من شمال مالي إلى المناطق الريفية في وسطها وجنوب غرب النيجر وشمال بوركينا فاسو، فيما سيطر “الجهاديون” في عام 2022 على منتزه W، وهو عبارة عن محمية طبيعية ضخمة تمتد على أكثر من 10000 كم2 في المنطقة الحدودية بين بنين وبوركينا فاسو والنيجر، حيث اتخذوها كقاعدة للتوسع نحو السافانا في غرب إفريقيا. وهو ما يجعل المنطقة مُصدرة للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا في ظل عدم توافر فرص للعمل أو التعليم أو تكوين أسرة مستقرة.
- في ضوء ما سبق، يلعب القتال في السودان دور حلقة الوصل بين حروب منطقة الساحل من غرب إلى شرق القارة، وفتح الباب لانخراط القبائل المحلية بقوة في تلك الصراعات التي تغذيها موجات الجفاف، وانتشار البطالة، والصراع على الموارد، فضلا عن التنافس بين قوى إقليمية مثل مصر وإثيوبيا والإمارات والجزائر وكينيا، وأخرى دولية مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.
الدولة | عدد السكان (مليون نسمة) |
نسبة العرب | عدد أفراد القوات المسلحة النظامية |
---|---|---|---|
السودان | 49.1 | 70٪ | 144,300 |
النيجر | 25.3 | 0.4٪ | 57,100 |
مالي | 21.3 | 0.3%* | 41,000 |
تشاد | 18.5 | 9.7٪ | 45,000 |
أفريقيا الوسطى | 5.5 | 6٪ | 10,000 |
المصدر: عدد السكان ونسبة العرب (تقديرات 2023) من “كتاب الحقائق” لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وحجم القوات المسلحة من تقرير التوازن العسكري لعام 2023.
* نسبة تقريبية للعرب الحسنية.
دارفور وصراع القبائل العربية الأفريقية
- تبنى الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، مقاربة تتمحور حول التفوق العربي، لكنه أيضا انفتح على أفريقيا للتملص من الحصار الغربي المفروض عليه، عبر تدشين حزام عربي في القارة الأفريقية، فدعم القبائل العربية في وسط أفريقيا، وبالأخص في تشـاد خلال حقبة الحرب الليبية التشـادية (1979-1987)، وهو ما دفع الرئيس التشادي حسين حبري (1982-1990) لمعاداة العرب باعتبارهم “أتباع القذافي”.
- مع تعرض العرب في تشاد للاضطهاد السياسي في ثمانينات القرن العشرين بالتزامن مع موجات جفاف شديدة أثرت على حياتهم كرعاة إبل، غادر العديد منهم إلى ليبيا والسودان، بمن فيهم أفراد من فرع “أولاد منصور” من عشيرة “الماهرية” من قبيلة “الرزيقات”، بقيادة “جمعة دقلو”، الذي غادر إلى نيالا في جنوب دارفـور عام 1987، ومن تلك العائلة برز ابن شقيق جمعة، محمد حمدان الشهير بحميدتي المولود عام 1973.
- سرعان ما تغير الوضع مع سيطرة “إدريس ديبي” على السلطة في تشـاد؛ حيث ينتمي “ديبي” إلى “الزغاوة” (يطلق عليهم أيضا بيري) الذين يمثلون حوالي 1٪ فقط من بين سكان تشاد، ويتركزون في شرقها على الحدود مع السودان. وفي ظل افتقاده لقاعدة قبلية واسعة، لجأ “ديبي” إلى كسب قبائل عربية عبر تعيين العديد من العرب ضمن الدائرة المقربة منه مثل: بشارة عيسى جاد الله، وزير الدفاع السابق، وابن عم حميدتي، ووزير الخارجية السابق محمد صالح النظيف (قبيلة المهارية).
- أدى الجفاف إلى صراع بين الرعاة والمزارعين امتد من دارفور إلى تشاد وأفريقيا الوسطى والكونغو، حيث دفع تغير المناخ الرعاة إلى الاتجاه جنوبا خلال موسم الهجرة السنوية، ليصطدموا مع سكان المجتمعات المحلية حول الوصول إلى المياه والمراعي، واتهم المزارعون الرعاة بتدمير محاصيلهم ومقاسمتهم للمياه، وهو ما أدى إلى اقتتال بين الطرفين.
- هربا من الجفاف بدأت بعض القبائل العربية تميل نحو الاستقرار، فأثار ملف توطين الرعاة الرحل العرب قلق المجتمعات الزراعية التي خشيت من فقدان أراضيها، ومن تحول العرب إلى قوة سياسية مستقرة ذات قاعدة مجتمعية. فيما اعتبر العرب الرحل أنهم يعاملون مثل الأجانب في منطقة عاشت فيها أسرهم منذ عقود، وطالبوا بحقهم في ملكية الأراضي.
- برزت إحدى بؤر الصراع في إقليم دارفور، الذي يشترك في الحدود مع ليبيا ومصر وتشاد وأفريقيا الوسطى، بداية من عام 2003 بين قبائل أفريقية مسلمة (فور -الذين أعطوا للإقليم اسمه، زغاوة، مساليت) تعمل في الزراعة، وقبائل عربية، في بداية الأمر، تعمل برعي الإبل (إبالة). وفي ظل انشغال الجيش بقتال الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، في حرب أخذت بعدا دينيا، خشي رئيس السودان السابق “عمر البشير” من أن يكون التمرد في دارفور مؤامرة مدعومة من الجنوبيين لفتح جبهة جديدة في الغرب تستنزف الحكومة، فلجأ إلى تسليح قبائل عربية وأخرى وافدة من غرب أفريقيا، مثل الفلاتة، لمواجهة تمرد الجماعات الدارفـورية، الفور والزغاوة والمساليت، ذات العرقية الأفريقية، ووعدت الحكومة القبائل العربية بمنحهم ملكية الأراضي الخصبة غرب جبل مرة بدارفـور حال تصديهم للمتمردين.
- أدت تلك المعطيات، بحسب تقديرات مجموعة الأزمات الدولية1، إلى وصول عدد مسلحي القبائل الداعمة لحكومة الخرطوم إلى أكثر من عشر أضعاف القوات النظامية السودانية المنتشرة في دارفور، والبالغ عددها نحو 40 ألف جندي سوداني. فيما اشتهر أنصار الحكومة من أبناء القبائل العربية باسم الجنجويد، نسبة – بحسب بعض الآراء – إلى “الجنيد بن عبد الله الجهني” الجد الأكبر لعرب دارفـور وتشاد، والمنتمي إلى قبيلة جهينة العربية الشهيرة.