مقالات الرأي

الليرة السورية، إلى أين؟

تُعانِي اللِّيرةُ السُّورِيّةُ من تَدَهْوُرٍ تَسارَعَتْ وتِيرَتُهُ في الأَيّامِ السّابِقةِ؛ فَفي شَهْرٍ واحِدٍ ارْتَفَعَ الدُّولارُ أَمامَ اللِّيرةِ بِنِسْبةِ 40%. فَبَلَغَتْ قِيمةُ الدُّولارِ 4,770 لِيرةً سُورِيّةً، من هنا يَتَساءَلُ السُّورِيُّونَ والمُتابِعُونَ: اللِّيرةُ السُّورِيّةُ إلى أَيْنَ؟ هَلْ هناك حُلُولٌ مُرْتَقَبةٌ؟ أَمْ أَنَّ التَّدَهْوُرَ سَيِّدُ المَوْقِفِ؟

واقِعُ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ
لا يُمْكِنُ اعْتِبارُ قَضِيّةِ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ قَضِيّةً اقْتِصادِيّةً بَحْتةً، ولَكِنَّها قَضِيّةٌ اقْتِصادِيّةٌ وسِياسِيّةٌ واجْتِماعِيّةٌ في الوَقْتِ نَفْسِهِ؛ فَهي تَخْضَعُ بِشَكْلٍ مُباشِرٍ لِتَجاذُباتِ العَمَلِيّةِ السِّياسِيّةِ، كَما أَنَّها تُؤَثِّرُ وبِشَكْلٍ مُباشِرٍ في المُؤَشِّراتِ الاجْتِماعِيّةِ السُّورِيّةِ. وهذا ما يَجْعَلُها قَضِيّةً مُتَعَدِّدةَ الأَبْعادِ، ولِفَهْمِ مُسْتَقْبَلِها لا بُدَّ من الاطِّلاعِ الدَّقِيقِ على تَفاصِيلِ الواقِعِ السِّياسِيِّ والاجْتِماعِيِّ.

أدَّى الانْهِيارُ المُسْتَمِرُّ للِّيرةِ السُّورِيّةِ إِلَى تَرَدِّي غالِبِيّةِ المُؤَشِّراتِ الاجْتِماعِيّةِ، فالفَقْرُ والتَّشَرُّدُ والتَّسَوُّلُ في ازْدِيادٍ مُسْتَمِرٍّ. كَما أَنَّ الحاضِنةَ الاجْتِماعِيّةَ لِلنِّظامِ السُّورِيِّ في أَسْوأِ حالاتِها، فالتَّمَلْمُلُ ضِمْنَ مُؤَيِّدِي النِّظامِ. حَتَّى على مُسْتَوَى الإعْلامِ الرَّسْمِيِّ وشِبْهِ الرَّسْمِيِّ باتَ يَشْهَدُ أَصْواتًا تُطالِبُ بِحُلُولٍ للوَضْعِ بِغَضِّ النَّظَرِ عن الآلِيّةِ.

يَنْخَفِضُ مُسْتَوَى الدَّخْلِ في مَناطِقِ سَيْطَرةِ النِّظامِ بِذاتِ المَسارِ الَّذِي تَنْهارُ بِهِ اللِّيرةُ، فَأُجُورُ المُوَظَّفِينَ اقْتَرَبَتْ من 10 دُولارات شَهْرِيًّا. ومِمّا يَدُلُّ على عَجْزِ النِّظامِ عن إيجادِ حُلُولٍ: ما قامَ بِهِ مُؤَخَّرًا من رَفْعِ الدَّعْمِ عن البَنْزِينِ ورَفْعِ سِعْرِ الغازِ المَنْزِلِيِّ. فَفي ظِلِّ الضَّغْطِ الاقْتِصادِيِّ الهائِلِ على النّاسِ يَقُومُ النِّظامُ بِرَفْعِ أَسْعارِ المَوادِّ الأَساسِيّةِ.

إنَّ رَفْعَ الدَّعْمِ عن بَعْضِ المَوادِّ الأَساسِيّةِ في ظِلِّ هذه الظُّرُوفِ الاقْتِصادِيّةِ الخانِقةِ يَدُلُّ وبِشَكْلٍ جَلِيٍّ على أَنَّ النِّظامَ لَيْسَ لَدَيْهِ أَيُّ مَوارِدَ مالِيّةٍ. فَهو بِحاجةٍ لِرَفْعِ الأَسْعارِ لِتَغْطِيةِ نَفَقاتِهِ، فَلا سَبِيلَ لِهذه التَّغْطِيةِ إلَّا اللُّجُوءُ إلى جُيُوبِ الأَفْرادِ شِبْهِ الخاوِيةِ. وهذا الأَمْرُ يَتَنافَى مع مَصْلَحةِ النِّظامِ في ضَمانِ اسْتِقْرارِهِ. وهذا يَدْعُو للقَوْلِ بِأَنَّ هناك شَيْئًا خَفِيًّا خَلْفَ الكَوالِيسِ.

أَسْبابُ التَّدَهْوُرِ الحَادِّ للِّيرةِ السُّورِيّةِ
تَنْقَسِمُ أَسْبابُ تَدَهْوُرِ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ إلى قِسْمَيْنِ: اقْتِصادِيّةٍ وسِياسِيّةٍ. وفِيما يَخُصُّ الأَسْبابَ الاقْتِصادِيّةَ فَقَدْ باتَتْ مَعْرُوفةً للجَمِيعِ سَواءٌ بِشِقِّها الدّاخِلِيِّ أَوِ الخارِجِيِّ. ولَكِنْ ماذا عن الأَسْبابِ السِّياسِيّةِ، هَلْ هناك من جَدِيدٍ على صَعِيدِها؟

قَبْلَ الدُّخُولِ في الأَسْبابِ السِّياسِيّةِ لِتَدَهْوُرِ اللِّيرةِ لا بُدَّ من التَّساؤُلِ، لِمَ لا يُنْقِذُ الحُلَفاءُ النِّظامَ من مَأْزِقِهِ؟ لا سِيَّما أَنَّ هذا المَأْزِقَ وصَلَ لِمَرْحَلةٍ خَطِيرةٍ تُوشِكُ أَنْ تُسْقِطَ النِّظامَ. قامَ حُلَفاءُ النِّظامِ ورُوسْيا وإيرانُ على وجْهِ الخُصُوصِ بِإنْقاذِ النِّظامِ اقْتِصادِيًّا في أَكْثَرَ من مَأْزِقٍ. فَلِمَ هُمْ غائِبُونَ في هذا المَأْزِقِ؟

اقْتِصادُ الحُلَفاءِ لَيْسَ بِأَفْضَلِ حالاتِهِ ولَكِنَّهُمْ قادِرُونَ على التَّخْفِيفِ من حِدّةِ أَزْمةِ اللِّيرةِ لَوْ أَرادُوا. وهذا يَدْفَعُنا للقَوْلِ بِأَنَّ للحُلَفاءِ مَصْلَحةً في هذا التَّدَهْوُرِ وذلك وَفْقًا لاحْتِمالَيْنِ؛ الأَوَّلُ إجْبارُ النِّظامِ على مَنْحِ المَزِيدِ من المَكاسِبِ الاسْتِثْمارِيّةِ في سُورْيا. والثّانِي حُدُوثُ تَبايُنٍ في المَواقِفِ السِّياسِيّةِ ويُرِيدُونَ إجْبارَ النِّظامِ على تَقْدِيمِ تَنازُلاتٍ سِياسِيّةٍ في هذا الشَّأْنِ.

يُعْتَبَرُ مَسارُ أستانة المَسارَ السِّياسِيَّ الأَهَمَّ في القَضِيّةِ السُّورِيّةِ حالِيًّا. وهو يَشْهَدُ جُمُودًا واضِحًا. لا سِيَّما أَنَّ الجَوْلةَ الأَخِيرةَ كانَتْ فاشِلةً بامْتِيازٍ على الرَّغْمِ من أَنَّ غالِبِيّةَ التَوَقُّعاتِ الإقْلِيمِيّةِ كانَتْ مُتَفائِلةً حِيالَها. وبَعْدَ انْتِهائِها حَمَّلَ غالِبِيّةُ الأَطْرافِ والمُراقِبُونَ النِّظامَ مَسْؤُولِيّةَ إفْشالِ الجَوْلةِ.

يَسْعَى النِّظامُ من خِلالِ مَسارِ أستانة للمُماطَلةِ وكَسْبِ الوَقْتِ بِانْتِظارِ تَغَيُّراتٍ دَوْلِيّةٍ تَصُبُّ في صالِحِهِ. وهنا نَتَذَكَّرُ قَوْلَ وزِيرِ خارِجِيّةِ النِّظامِ السّابِقِ ولِيدِ المُعَلِّمِ الَّذِي قالَ: “سَنُغْرِقُهُمْ بِالتَّفاصِيلِ”. إنَّ السُّلُوكَ السَّلْبِيَّ لِلنِّظامِ في قَضِيّةِ المَسارِ السِّياسِيِّ يَبْدُو أَنَّهُ خالَفَ التَّوَقُّعاتِ الرُّوسِيّةَ.

تَسْعَى رُوسْيا بِشَكْلٍ حَثِيثٍ لِإيجادِ حَلٍّ سِياسِيٍّ في سُورْيا يَضْمَنُ بَقاءَ النِّظامِ. وهذا ما يَظْهَرُ من خِلالِ الجَوْلاتِ المَكُّوكِيّةِ الَّتِي يَقُومُ بِها وزِيرُ الخارِجِيّةِ الرُّوسِيّةِ. وتَنْظِيمِ اجْتِماعاتٍ جَدِيدةٍ وإعادةِ الرُّوحِ لِلدَّوْرِ الخَلِيجِيِّ. إنَّ سَعْيَ رُوسْيا للحَلِّ تَمَّ مُقابَلَتُهُ بِسَلْبِيّةٍ مُطْلَقةٍ من النِّظامِ، وهذا ما سَبَّبَ عُزُوفَ رُوسْيا عن إنْقاذِ اللِّيرةِ كَوَسِيلةٍ لِلضَّغْطِ على النِّظامِ.

الدَّوْرُ الخَلِيجِيُّ والإيرانِيُّ وتَدَهْوُرُ اللِّيرةِ
لِإيرانَ دَوْر غَيْر مُباشِرٍ في مَأْزِقِ اللِّيرةِ؛ فَهي من جِهةٍ تَتَباطَأُ في تَقْدِيمِ التَّوْرِيداتِ لِلنِّظامِ وَفْقًا لخَطِّ الائْتِمانِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ. ومن جِهةٍ أُخْرَى فَإنَّ الدُّوَلَ الخَلِيجِيّةَ عُمُومًا -والسُّعُودِيّةَ والأَماراتِ على وجْهِ التَّحْدِيدِ- تَشْتَرِطُ إخْراجَ إيرانَ من سُورْيا لِإعادةِ سُورْيا إلى جامِعةِ الدُّوَلِ العَرَبِيّةِ، ولِإعادةِ العَلاقاتِ الاقْتِصادِيّةِ مع النِّظامِ.

إنَّ عَوْدةَ سُورْيا بِرِئاسةِ النِّظامِ إلى جامِعةِ الدُّوَلِ العَرَبِيّةِ وإعادةِ العَلاقاتِ الاقْتِصادِيّةِ مَعَهُ من شَأْنِها تَحْفِيزُ اقْتِصادِ النِّظامِ وتَحْسِينُ واقِعِ اللِّيرةِ. في الوَقْتِ نَفْسِهِ تُدْرِكُ إيرانُ بِدِقّةٍ أَنَّ خُرُوجَها من سُورْيا يُعْتَبَرُ ضَرْبةً قَوِيّةً لامْتِدادِها الإقْلِيمِيِّ. لِذلك تَسْعَى للحِفاظِ على تَقْدِيمِ مُساعَداتٍ لِلنِّظامِ لا تُنْقِذُهُ ولَكِنَّها تُبْقِيهِ على قَيْدِ الحَياةِ مِمّا يَجْعَلُهُ في حاجةٍ مُسْتَمِرّةٍ لَها.

مُسْتَقْبَلُ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ
يُعْتَبَرُ مُسْتَقْبَلُ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ -أَكْثَرَ من أَيِّ وقْتٍ مَضَى- مَرْهُونًا بِالتَّقَدُّمِ السِّياسِيِّ في مُفاوَضاتِ الحَلِّ في سُورْيا. فَتَعَنُّتُ النِّظامِ عن الدُّخُولِ في حَلٍّ حَقِيقِيٍّ من شَأْنِهِ اسْتِمْرارُ التَّدَهْوُرِ واسْتِمْرارُ مَأْزِقِ الشَّعْبِ السُّورِيِّ اقْتِصادِيًّا. فَأَيُّ إيجابِيّةٍ من النِّظامِ من شَأْنِها تَخْفِيفُ حِدّةِ العُقُوباتِ وتَقْدِيمُ مُساعَداتٍ اقْتِصادِيّةٍ لَهُ تُحَسِّنُ من واقِعِ اللِّيرةِ.

يُرَوِّجُ النِّظامُ بين أَوْساطِهِ إلى أَنَّ الضَّغْطَ الاقْتِصادِيَّ عَلَيْهِ سَيَسْتَمِرُّ بِالازْدِيادِ حَتَّى انْتِهاءِ الاسْتِحْقاقِ الرِّئاسِيِّ. فَهو يُمَهِّدُ بِذلك إلى أَنَّ اللِّيرةَ السُّورِيّةَ قَدْ تَشْهَدُ مَزِيدًا من التَّدَهْوُرِ في الأَيّامِ والشُّهُورِ القادِمةِ. وطَرْحُ النِّظامِ مَغْلُوطٌ بِالمُطْلَقِ، فَلا أَحَدَ يُراهِنُ على الانْتِخاباتِ الرِّئاسِيّةِ، وهي مَعْرُوفةُ النَّتائِجِ مُسْبَقًا؛ بِغَضِّ النَّظَرِ عن نِسْبةِ المُشارَكةِ، وعن واقِعِ صَنادِيقِ الانْتِخاباتِ.

إنَّ الحَماسةَ السِّياسِيّةَ لِرُوسْيا قَدْ تَدُلُّ على أَنَّها انْتَزَعَتْ وُعُودًا من النِّظامِ بِتَسْهِيلِ الحَلِّ السِّياسِيِّ. ولذلك من المُتَوَقَّعِ أَنْ نَشْهَدَ تَقَدُّمًا في الجَوْلةِ المُقْبِلةِ من مَسارِ أستانة. هذا إنْ لَمْ يَنْكُثِ النِّظامُ بِوُعُودِهِ كالعادةِ. جَدِيرٌ بِالقَوْلِ: إنَّ أَيَّ تَحَسُّنٍ حَقِيقِيٍّ في قِيمةِ اللِّيرةِ من شَأْنِهِ الدَّلالةُ على وُجُودِ بَوادِرَ إيجابِيّةٍ في الحَلِّ السِّياسِيِّ.

وَلِذَا يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ اللِّيرةَ السُّورِيّةَ تَحَوَّلَتْ لِمُؤَشِّرٍ حَوْلَ واقِعِ التَّقَدُّمِ في المَسارِ السِّياسِيِّ. فَفي حالِ تَدَهْوُرِها فَإنَّ هذا يَدُلُّ على اسْتِعْصاءٍ سِياسِيٍّ. في الوَقْتِ نَفْسِهِ قَدْ يَدُلُّ التَّحَسُّنُ في قِيمَتِها على بَوادِرَ إيجابِيّةٍ.

إنَّ واقِعَ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ مُعَقَّدٌ للغايةِ بين تَجاذُباتٍ سِياسِيّةٍ واقْتِصادِيّةٍ. وهنا لا نَدَّعِي أَنَّ قَضِيَّتَها سِياسِيّةٌ بَحْتةٌ. فَهي وبِدُونِ شَكٍّ ذاتُ بُعْدٍ اقْتِصادِيٍّ، لَكِنَّهُ مُقْتَرِنٌ وبِقُوّةٍ بِالبُعْدِ السِّياسِيِّ، فَأَزْمةُ لُبْنانَ والعُقُوباتُ الدَّوْلِيّةُ ومَوْقِفُ الحُلَفاءِ كُلُّها مُؤَشِّراتٌ ذاتُ بُعْدَيْنِ اقْتِصادِيٍّ وسِياسِيٍّ.

بِناءً على ذلك؛ يُمْكِنُ القَوْلُ في الخِتامِ بِأَنَّ مَصِيرَ اللِّيرةِ السُّورِيّةِ مَرْهُونٌ بِالمَسارِ السِّياسِيِّ بِشَكْلٍ مُباشِرٍ وغَيْرِ مُباشِرٍ. وكَوْنُ المَسارِ السِّياسِيِّ غَيْرَ واضِحِ المَعالِمِ ويَكْتَنِفُهُ الغُمُوضُ؛ فَهذا الأَمْرُ يَنْسَحِبُ على اللِّيرةِ. فَمُسْتَقْبَلُها غامِضٌ حالِيًّا. وبِالتَّأْكِيدِ فَإنَّ مُسْتَقْبَلَ النِّظامِ كَكُلٍّ مَرْهُونٌ بِها، فالمَزِيدُ من التَّدَهْوُرِ قَدْ يُعَرِّضُ النِّظامَ لِخَطَرِ السُّقُوطِ، ولَكِنَّ هذه المَرّةَ بِأَيْدِي مُؤَيِّدِيهِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: