مقالات الرأي

حديث في دلالات وأسباب تراجع مؤشرات الاقتصاد السوري

يُعاني الاقْتِصاد السُّوريّ في ظِلّ حُكُومة النِّظام ومُنْذ عام 2011م من تَراجُع في جَميع مُؤَشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ والجُزْئيّ، وهذا ما تَناوَله العَديد من الباحِثين بالتَّحْليل، وهنا يُلاحَظ بَعْض الخَلْط بَيْن الأَسْباب والأَعْراض، وهذا الخَلْط من شَأْنِه الوُصُول لنَتائِج مَغْلُوطة أو غَيْر دَقيقة، وفيما يَلي نُسَلِّط الضَّوْء على بَعْض هذه المُؤَشِّرات ونُبَيِّن عَلاقَتَها التَّبادُليّة.

يُقَسِّم عِلْم الاقْتِصاد المُؤَشِّرات الاقْتِصاديّة إلى فَرْعَيْن مُسْتَقِلّين، الأَوَّل هو الاقْتِصاد الكُلّي، وهو يَتَّصِل باقْتِصاد الحُكُومة بِمُخْتَلِف أَجْهِزَتها ومُؤَسَّساتها، والثّاني الاقْتِصاد الجُزْئيّ ويَتَّصِل باقْتِصاد القِطاع الخاصّ من شَرِكات وأَفْراد، ويُعْتَبَر الاقْتِصاد الكُلّيّ المُؤَثِّر في الاقْتِصاد الجُزْئيّ، فإذا تَحسَّن الاقْتِصاد الكُلّيّ تَحسَّن معه الجُزْئيّ والعَكْس صَحيح.

لا يَشْعُر الأَفْراد بِتَغَيُّر مُؤَشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ بصُورة مُباشِرة، فقد لا يُلاحِظُون التَّغيُّر في النّاتِج المَحَلّيّ الإِجْماليّ أو العَجْز في الميزان التِّجاريّ، وغَيْرها من المُؤَشِّرات كالتَّضخُّم والرُّكُود، ولَكِن هذه المُؤَشِّرات سُرْعان ما تُؤَثِّر على مُؤَشِّراتِهِم الخاصّة فَيَتَأَثَّر دَخْلُهُم وتَتَأَثَّر أَسْعار المَواد الاسْتِهْلاكيّة، وهذا ما يُلاحِظُه الأَفْرادُ.

وفيما يَتَعَلَّق بِمُؤَشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ، فهي تُؤَثِّر ببَعْضِها البَعْض، مع وُجُود ثِقْل نِسْبيّ لبَعْض المُؤَشِّرات الَّتي يَفُوق تَأْثيرُها باقي المُؤَشِّرات، فانْخِفاض النّاتِج المَحَلّيّ الإِجْماليّ يُؤَثِّر بِقُوّة على باقي المُؤَشِّرات كالمِيزان التِّجاريّ ومُؤَشِّر الدُّيُون الخارِجيّة ومُعَدَّلات البِطالة والتَّضَخُّم وسِعْر الفائِدة، وهنا من الأَهَمّيّة بمَكان تَحْديد المُؤَشِّرات الأَساس الَّتي تُؤَثِّر بِباقي المُؤَشِّرات.

يُعْتَبر سِعْر صَرْف العُمْلة من المُؤَشِّرات الَّتي تَتَأَثَّر بِمُخْتَلِف مُؤَشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ، وسِعْر الصَّرْف نَتيجةً للمُؤَشِّرات الاقْتِصاديّة ولَيْس سَبَبًا لها، فالدَّعْوة لِتَحْسين سِعْر الصَّرْف لا يُمْكِن أَن يَتِمّ إِلّا من خِلال تَحْسين مُؤَشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ، وفي حال اللُّجُوء لِوَسائِل أُخْرى فَسَيَكُون التَّأْثير مَحْدُودًا وآنيًّا وقد يَتَسَبَّب بمُفاقَمة الوَضْع.

تَخْتَلِف حَساسيّة المُؤَشِّرات الاقْتِصاديّة لإِظْهار التَّغَيُّر في الاقْتِصاد الكُلّيّ، فبَعْضُها سَريع التَّأَثُّر كمُسْتَوَى النُّمُوّ الاقْتِصاديّ والمِيزان التِّجاريّ، وبَعْضَها بَطيء التَّأَثُّر كسِعْر الصَّرْف وسِعْر الفائِدة، فالخُبَراء الاقْتِصاديُّون يَأْخُذُون بعَيْن الاعْتِبار حَساسيّة المُؤَشِّرات للتَّغَيُّر عِنْد التَّحْليل الاقْتِصاديِّ.

وبالعَوْدة للاقْتِصاد السُّوريّ يُعْتبَر البَعْض أنّ سِعْر صَرْف اللّيرة السُّوريّة هو أُولَى المُؤَشِّرات الَّتي تَشِي بانْهيار اقْتِصاد النِّظام، وهذا الاعْتِقاد خاطِئ وسَبَبُه الخَلْط بَيْن حَساسيّة المُؤَشِّرات لإظْهار التَّغَيُّر في مُؤَشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ، فَسِعْر الصَّرْف من المُؤَشِّرات بَطيئة التَّأَثُّر وهي من المُؤَشِّرات المُتَأَخِّرة الظُّهُور.

فاقْتِصاد النِّظام انْهار في عام 2013 و 2014 عِنْدَما خَرَجَت غالِبيّة المَوارِد الاقْتِصاديّة لِلدَّوْلة السُّوريّة عن سَيْطَرَتِه، إِلّا أَنّ سِعْر صَرْف اللّيرة بَقِي مُتَوازِنًا نِسْبيًّا وبَدَأ في الانْهيار بِشَكْل بَطيء على الرَّغْم مِن أنّ الاقْتِصاد كان يَنْهار بسُرْعة، وعَمَليًّا لم تَنْهَر اللّيرة بشَكْلٍ عَمَليّ إِلّا في عام 2020م أَي بَعْد 9 سَنَوات على بَدْء انْهيار اقْتِصاد النِّظام.

حَتَّى بِداية عام 2020م كانَت اللّيرة السُّوريّة تَتَراجَع بِبُطْء، فحَتَّى أَواخِر عام 2019م كانَت تُحافِظ على سِعْر صَرْف لا يَتَجاوَز 650 ليرة لِلدُّولار الواحِد، إِلّا أَنَّها في عام 2020م ارْتَفَعتْ لِأَعْلَى من 3,000 ليرة للدُّولار الواحِد ليَزْداد سِعْر صَرْف الدُّولار بِنِسْبة 233% في عام واحِد، فإذا اعْتَبَرْنا أنّ سِعْر الصَّرْف هو أُولَى مُؤَشِّرات انْهيار الاقْتِصاد فهذا يَعْني أَنّ اقْتِصاد النِّظام وحَتَّى مَطْلَع عام 2020م كانَت مَقْبُولة وهذا غَيْر صَحيح.

يَرى البَعْض أَنّ حالة الاقْتِصاد السُّوريّ تُشابِه الاقْتِصاد الفِنْزويليّ، وهذا غَيْر دَقيق، فَعلى الرَّغْم من التَّدَهْوُر الَّذي بَلَغَه الاقْتِصاد السُّوريّ إِلّا أَنَّه لَم يَصِلْ لِمَرْحَلة الفِنْزِويليّ، ومن المُسْتَبْعد الوُصُول لهذه المَرْحَلة في المَدَى المَنْظُور، فالتَّضَخُّم في فِنْزويلا عام 2018م قُدِّر ب 1,000,000%، كما أنّ الدُّولار بَلَغ ما يُقارِب مِلْيُونَي بُوليفار، وهذا ما لَم يَحْدُث في سُورْيا.

الانْهيار الاقْتِصاديّ في سُوريا تَمّ ويَتِمّ بوَتيرة بَطيئة نِسْبيّة، بينما في فنزويلا فالانْهيار كان وفْق مُتَوالِية هَنْدَسيّة، أو كما يُسَمَّى بالانْهيار الأُسُّيّ، وتَخْتَلِف ظُرُوف الاقْتِصاد السُّوريّ عن الفنزويلي، فالاقْتِصاد الفنزويلي يَعْتمد على النِّفْط بِنِسْبة 95% في تَمْويل نَفَقات الحُكُومة، فتَراجُع أَسْعار النِّفْط والعُقُوبات الأَمْريكيّة أَدَّت للانْهيار الأُسُّيّ في فنزويلا.

يَعْتمد الاقْتِصاد السُّوريّ على النِّفْط والزِّراعة بِشَكْل رَئيس وعلى الصِّناعة والسّياحة بدَرَجة ثانية فهذا التَّنَوُّع ساعَد النِّظام في ضَبْط الانْهيار، كما أَنّ دَعْم حُلَفاء النِّظام ساعَدَه في تَخْفيف حِدّة الانْهيار وهذا ما لَم يَكُن مُتَوَفِّرًا لفنزويلا.

الاقْتِصاد السُّوريّ يَنْهار بشَكْل تَدْريجيّ، وما يَسْعَى إليه الفَريق الاقْتِصاديّ لَدى النِّظام يَتَمَثَّلُ بضَبْط الانْهيار ومَنْع الانْهيار الفُجائيّ، فالمُعْطَيات الاقْتِصاديّة لا تُبْدي أَي آمال لِمُسْتَقْبَل النِّظام الاقْتِصادي، والعُقُوبات الخارِجيّة تَزيد من صُعُوبة الواقِع الاقْتِصادي، فالأَمَل الاقْتِصاديّ الوَحيد للنِّظام يَتَمَثَّل في تَغَيُّر المَوْقِف الدَّوْليّ وتَشكُّل تَحالُفات دَوْليّة جَديدة، وهذا يَبْدُو غَيْر وارِد حاليًّا.

المُحَلِّل الاقْتِصاديّ وخِلال تَناوُله أيّ حَدَث اقْتِصاديّ عليه الأَخْذ بِعَيْن الاعْتِبار عَلاقة المُتَغَيِّرات الاقْتِصاديّة بِبَعْضها، وحَساسيّتها لإظْهار التَّغَيُّرات، ولا بُدّ من تَحْديد العَرَض والسَّبَب، فالاهْتِمام المَبالَغ فيه بالعَرَض على حِساب السَّبَب من شَأْنِه تَضْليل النَّتائِج.

يَقَع البَعْض في خَطَأ الخَلْط بَيْن العَرَض والسَّبَب، ولِتَوْضيح هذه النُّقْطة، يُمْكِن تَشْبيه الخَلَل الاقْتِصاديّ بالمَرَض، فالطَّبيب النّاجِح لا يُرَكِّزُ اهْتِمامَه على عِلاج أَلَم المَريض، فالأَلَم عَرَض لسَبَب خَفيّ، فعِنْد عِلاج السَّبَب سَيَزُول الأَلَم من تِلْقاء نَفْسه، فعِنْد التَّرْكيز على الأَلَم سَيَكُون العِلاج بالمُسَكِّنات وعِنْد زَوال أَثَر المُسَكِّن سيَعُود الأَلَم.

سِعْر الصَّرْف ومُسْتَوَى الدَّخْل وارْتِفاع الأَسْعار كُلُّها أَعْراض لأَسْباب اقْتِصاديّة عَميقة تَتَحَمَّل مَسْؤُوليَّتها مُؤشِّرات الاقْتِصاد الكُلّيّ، ومِن خَلْفها السّياسات الاقْتِصاديّة المُتَّبَعة على مُسْتَوى الحُكُومة، وكما أَسْلَفْنا تَخْتَلِف حَساسية سِعْر الصَّرْف ومُسْتَوَى الدُّخُول لإِظْهار التَّغَيُّرات الاقْتِصاديّةِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: